د. سلمان ريا
لا أحد يلومهم، لكن أحدًا لا يسأل: ماذا يتبقى من وطنٍ حين تفارقه عقولُه؟
في السنوات الأخيرة، غادرت آلاف الكفاءات السورية الجامعات والمشافي ومكاتب التصميم والمختبرات. يغادرون بصمتٍ متكرّر، وكأن الرحيل صار طقسًا جماعيًا لا يحتاج إلى تبرير. الطبيب الذي حلم بإعمار مشفى مدينته أصبح في برلين، والمهندس الذي أراد أن يبني بيتًا في قريته صار يشيّد الجسور في هامبورغ.
ما يحدث اليوم ليس مجرد هجرة أفرادٍ يسعون إلى حياةٍ أفضل، بل تحوّلٌ هيكلي في خريطة الوعي والإنتاج. فخلف المنح الأوروبية وبرامج التوظيف الدولية تكمن سياسة استقطابٍ ناعمة تُعيد توزيع الكفاءات من الأطراف المنهكة إلى المراكز الغنية. لا تُفرض بالقوة، بل تُقدَّم في هيئة إغراءٍ مشروعٍ: مختبرات حديثة، وأجور مجزية، وكرامة مهنية. وهكذا يتحوّل النزيف البشري إلى عملية مبرمجة تُدار بلغة “الفرص الأفضل”، بينما تخسر الدول النامية رأسمالها الأثمن دون أن يُطلق عليها رصاصة واحدة.
غير أن جوهر المشكلة لا يكمن في الخارج، بل في الداخل الذي جعل الرحيل حلمًا والبقاء عبئًا. حين يعمل الطبيب في ظروفٍ منهكة، والمهندس بلا مشروع، والأستاذ بلا أفقٍ مهني، فإن الوطن نفسه هو من يدفع أبناءه برفقٍ نحو الطائرة. نحن لا نخسرهم لأن أحدًا سرقهم، بل لأننا لم نحسن الاحتفاظ بهم.
هذه الهجرة، في جوهرها، ليست استسلامًا فرديًا، بل اعترافٌ جمعي بفشل السياسات الوطنية في بناء بيئةٍ تحترم الكفاءة وتمنحها معنى وجودها. وبهذا المعنى، لا تُفهم الهجرة بوصفها نزوحًا نحو الرفاه، بل كنتيجةٍ لمنظومتين متداخلتين: إحداهما داخلية تستنزف الطاقات دون مقابل، وأخرى عالمية تُعيد إنتاج التفاوت بين من يصنع المعرفة ومن يهاجر إليها.
إن مواجهة هذا النزيف لا تكون بالشعارات ولا بالمنع، بل بإصلاحٍ عميقٍ لبيئة العمل والتعليم. لا بدّ من حوافز تحفظ كرامة المهنة، ومن برامج تمكّن الشباب من العمل داخل البلاد، ومن شراكاتٍ تربط المغتربين بوطنهم دون أن تُشترط العودة الدائمة. يمكن تحقيق ذلك عبر منصة وطنية تتيح للخبراء السوريين في الخارج الإسهام بخبراتهم في المشاريع المحلية، أو عبر برامج عودةٍ قصيرة لتبادل المعرفة، أو تعاونٍ بحثيٍّ مستمر بين الجامعات السورية ونظيراتها في الخارج. المهم ألا يشعر الشاب أنّ حلمه يبدأ فقط من المطار.
إن إعادة بناء سوريا لا تبدأ بالحجر، بل بالإنسان. فالحفاظ على الكفاءات ليس ترفًا وطنيًا، بل شرط بقاءٍ تاريخي. كل عقلٍ يغادر يحمل معه جزءًا من المستقبل، وكل عقلٍ يبقى أو يعود يزرع لبنةً في طريق النهوض. إنّ الوطن لا يطلب من أبنائه التضحية، بل أن يجدوا فيه سببًا للبقاء، وأن يشعروا بأن طموحهم لا يُعدّ خروجًا عليه، بل بناءً له.
(أخبار سوريا الوطن-2)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
