| علي عبود
سألني المخرج هيثم حقي : مامصادر تمويل الصحف الخاصة وبخاصة أن الإعلام يدخل ضمن نطاق المشاريع الإقتصادية غير المجدية ماليا ؟!
السؤال مباشر ومحدد لايحتمل اللف والدوران .. وبالتالي يتطلب إجابة مباشرة بل وموجزة !!
أجبت على سؤال المخرج هيثم حقي بصراحة ربما لم يتوقعها : على الصحيفة الخاصة أن تربح وإلاّ توقفت عن الصدور !!
السؤال والجواب كان بعد إلقاء كلمتي عن تجربة صحيفة “الإقتصادية” الخاصة ضمن منتدى الحوار الثقافي بدمشق حول الصحافة الحزبية والخاصة في سورية الذي انعقد في مطلع تشرين الأول عام 2001 ..
لم يكن قد مضى سوى بضعة أشهر على ظهور الصحافة الخاصة الجديدة .. لكن بدا واضحا ان من كان متحمسا و”مستسهلا” لإصدار صحف حزبية أو خاصة واجهته بعد صدور العدد الأول معضلة “الإستمرارية” بسبب نقص التمويل المادي !
ممثلو الصحافة الحزبية في المنتدى أعلنوها بصراحة ملفتة: ننتظر دعما من الدولة وإشتراكات ..!
وقد فوجئ الكثيرون حينها، إن لم يكن الجميع ، بجوابي: على الصحيفة الخاصة أن تربح وإلاّ توقفت عن الصدور !!
ولا تزال “معضلة” استمرارية الصحف الخاصة مطروحة بل وتتفاقم يوما بعد يوم !!
والغريب أن أصحاب هذه الصحف أو بالأحرى من كان يشرف على إدارتها أو من يدور في فلكها لم يلامس جوهر مشكلة الصحافة الخاصة ، وكان يفضّل دوما التحدث عما تعانيه من مشكلات لاتختلف أساسا عن مشكلات الصحف الرسمية من حيث الشكل على الأقل !
طبعا الربح ليس هو هدف الصحيفة الخاصة وإلا تحولت إلى صحيفة “إعلانية” .. ولكن الصحيفة “المرتاحة ماديا” تستطيع أن تؤدي رسالتها بغض النظر عن معارضي أو مؤيدي هذه الرسالة !
وبالتالي مهما قيل ومهما صدر من تصريحات وانتقادات أو مديح وإطناب في الصحافة السورية الخاصة فإن الواقع يؤكد انه لولا صحيفة “الإقتصادية” الأسبوعية وصحيفة ” الوطن اليومية” .. لما أمكن لأحد الزعم أن في سورية صحافة خاصة!
وإذا كان الكثيرون يرون بل و”متأكدون” أن الوطن جريدة شبه رسمية مع استثناءات قليلة فإن “الإقتصادية” كانت صحيفة خاصة شكلا ومضمونا !
نعم ظهرت صحف خاصة ناجحة بعد صدور قانون المطبوعات لكن رئيس الحكومة السابق المهندس محمد ناجي عطري المناوئ للإعلام والإعلاميين “وأدها ” في مهدها ، وكتم أنفاسها مانعا ظهور أي محاولات جديدة تشكل مصدر قوة للصحافة الخاصة في سورية !!
ولا يتوهمن أحد أن عطري كان معجبا بصحيفتي الإقتصادية والوطن ولكنه لم يستطع إغلاقهما ، ولو كان الأمر بيديه لما تردد لحظة واحدة بإغلاقهما !
بل نقول أكثر من ذلك لو كان الأمر يعود للمهندس عطري لأغلق الصحف الرسمية كي يرتاح من الإنتقادات “المسيئة للوطن”!
ولاتنسوا تصنيفه للصحفيين السوريين ووضع المنتقدين منهم في صفوف “الخونة” !!
ولأنه لايستطيع أن يغلقها فقد “سلط” عليها وزير إعلامه فأتى بإدارات “موالية” لرئيس الحكومة !!
لن أرد على الآراء المتشابهة في أسباب تراجع الصحافة الخاصة في سورية .. ولكن يمكنني أن استعرض بإيجاز تجربتي في الصحافة الخاصة والتي بدأت عمليا في تسعينات القرن الماضي ..!!
أطلقت في حزيران 1993 بالتعاون مع بعض الزملاء مجلة سورية باسم “الشبكات” وكان هذا النوع من المطبوعات غير مألوف بألوانه وورقه المصقول وإخراجه المتميز ، وقد لفت الإصدار الجديد اهتمام الكثيرين من المعنيين في القطاعين العام والخاص .. والسفارات الأجنبية !
وتلقت هيئة التحرير رسائل تهنئة بالصدور من جهات رسمية وخاصة .. وبعد صدور عدة أعداد حضرت المسؤولة عن مكتبة الكونغرس في السفارة الأميركية في دمشق إلى إدارة المجلة وطلبت نسخا من جميع الأعداد الصادرة ، وتمنت ان تُرسل لها الأعداد الجديدة مباشرة إلى القسم الثقافي في السفارة .. !
وتكرر هذا المشهد بعد صدور عدة اعداد من صحيفة “الإقتصادية”.
كانت المجلة تصدر بحجم لايقل عن 68 صفحة ، وتحولت بعد العدد الأول إلى مجلة اقتصادية بالإضافة إلى نشر الدراسات والمقالات العلمية والأخبار الخفيفة والمنوعات ..
وظن الكثيرون بمن فيهم أبناء “الكار” اننا نطبع المجلة في بيروت لجهلهم بوجود تقنيات طباعية متطورة في سورية لكنها كانت مكلفة ماديا ..!
ومع ذلك كانت المجلة رابحة بفضل مااستقطبته من إعلانات تجارية.
واستمرت المجلة بالصدور حتى نهاية عام 1998.
التجربة الثانية لي والأهم في الصحافة الخاصة كانت مع صحيفة “الإقتصادية” الأسبوعية لصاحبها الزميل وضاح عبد ربه والتي صدر العدد الأول منها في 17/6/ 2001 ، ولا داعي للإسهاب في هذه التجربة فهي معروفة لأغلب الزملاء ، وقد واكبت “الإقتصادية” منذ العدد الأول مشروع التحديث والتطوير الإقتصادي والإداري والإجتماعي الذي تحدث عنه السيد الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم ، وقامت بتسليط الضوء على معرقلي الإصلاح وتحليل الصعوبات وتقديم الحلول ، ولم تنحاز لرأي ضد الآخر وشقت طريقها إلى القارئ المختص والمهتم ، واستقطبت أقلاما لأصحاب الرأي والرؤية في مشروع الإصلاح ..الخ .
وباختصار استطاعت “الإقتصادية” أن تترجم القول الفصل: على الصحيفة الخاصة أن تربح وإلاّ توقفت عن الصدور !!
التجربة الثالثة كانت مع صحيفة “الأسبوع الإقتصادي” .. الذي صدر العدد الأول منها في بداية عام 2005 ولم تختلف كثيرا عن تجربة “الإقتصادية” ، ولم تتحمل أية خسائر ، لكن بعد صدور أربعة أعداد منها فقط لم يتحمّل رئيس الحكومة انتقاداتها !
ولما كان عطري قادرا على فعل ما عجز عن فعله مع الإقتصادية فقد “شمّر” عن عضلاته وأغلقها مع مطبوعات أخرى إحداها كانت لاتزال قيد الإصدار .. كي يوحي ويزعم أن قرار الإغلاق لايستهدف “الاسبوع الإقتصادي”!
التجربة الرابعة كانت مع صحيفة “بورصات وأسواق” ، وكانت تصدر كل عدة أسابيع ، أي حين تتوفر لها الإعلانات ، وقد قمت بعد استلامي لرئاسة تحريرها بتحويلها إلى صحيفة أسبوعية صدر العدد الجديد منها في مطلع حزيران 2005 .. وكانت تجربة ناجحة مماثلة لصحيفتي الإقتصادية والأسبوع الإقتصادي .. !
ولم يستطع عطري إغلاقها لأن صاحبها كان قادرا على حمايتها من “بطشه ” !
وطبعا تبقى التجربة الأهم لي هي مع مطبوعة “البعث الإقتصادي” الذي صدر العدد الأول منها في آذار 1998 واستمرت حتى الغاها المدير الجديد لدار البعث الدكتور مهدي دخل الله في نيسان 2001 .. أي قبل شهرين من صدور العدد الأول من “الإقتصادية”!!!
ويُسجل لهذه المطبوعة استقطابها لأقلام إقتصادية لم يسبق لأصحابها أن نشروا دراسات أومقالات لهم في الإعلام الرسمي أو الحزبي!
وقد أدرت ” البعث الإقتصادي” بعقلية الصحافة الخاصة .. وقد تلقت إدارة التحرير بسبب ذلك انتقادات لاذعة لنشرها مقالات تتعارض مع توجهات الحكومة والقيادة الحزبية!!
الخلاصة حول مايتعلق بالصحافة الخاصة تكمن في جوابي على سؤال المخرج هيثم حقي: على الصحيفة الخاصة أن تربح وإلاّ توقفت عن الصدور !!
مصادر تمويل الصحافة الخاصة الطبيعية معروفة : الإعلانات والإشتراكات والبيع المباشر ..هذا إذا افترضنا أن الناشر من الصحفيين وليس من رجال المال أو مدعوم من واحد أو أكثر من رجال المال!
أما الحديث عن معاناة ومشكلات مثل الحرية ، والرقابة ، والنزاهة ، والإبداع ، والإمكانيات التقنية ، والتأهيل ، وضريبة المؤسسة العربية للإعلان، وتسويق الصحف عن طريق المؤسسة العامة لتوزيع المطبوعات .. الخ .. فهي لم تمنع يوما الصحفيين المحترفين “وأشدد على كلمة المحترفين” سواء في الصحافة الخاصة أو الرسمية من تقديم صحافة معلومات وخبر ورأي وتحليل .. صحافة تحترم عقل القارئ وتجرؤ على انتقاد كبار المسؤولين.
مثلا .. كان رئيس الحكومة الأسبق محمد مصطفى ميرو يردد في كل مرة ننتقده فيها بقسوة في صحيفة “الإقتصادية” هذه العبارة : من غير المألوف ومن غير المسبوق توجيه نقد مباشر لرئيس الحكومة!
وكان رئيس التحرير يجيبه ممازحا:عليك أن تتعود من الآن وصاعدا مثل هذا النقد!
لايهم أن يصدر ترخيص بأكثر من 200 مطبوعة .. فالمهم الجواب على السؤال: من يتابع هذه المطبوعات المختلفة المشارب والألوان .. بل ماذا بقي منها؟
قد تحقق بعض المطبوعات أرباحا كبيرة لأصحابها أو مستثمريها لأنهم أصلا هم “مندوبو إعلانات” أكثر من كونهم صحفيين ، ولكن لايطبع منها سوى نسخ قليلة لا تجدها حتى في أكشاك بيع الصحف ، ولا تجد من يقرأها لأن مواضيعها أقرب إلى الإعلانات أو المديح لفريق الحكومة !
وحتى الآن .. فإن مشهد الصحافة الخاصة الفعلي في سورية يقتصر على صحيفة الوطن فقط!!
ومع استمرار تصدي المتسللين إلى مهنة الصحافة أو من يمتطيها للإثراء السريع عبر علاقات عامة مع رجالات الحكومة والمال .. لا يبدو أن هذا المشهد سيتغيّر في الأمد المنظور ..!!
من كتابي قيد الإنجاز (إعلام لايتابع الحدث) وهو استكمال لكتابي الأول (مواجهة مع الحكومة) الصادر في عام 2009 عن دار الرضا بدمشق – (سيرياهوم نيوز24-4-2022)