هناك عوامل يمكن أن يكون لها تأثير محتمل على شكل وحدود الدعم الاقتصادي، الذي يمكن أن تقدمه موسكو لدمشق.
إذا كانت موسكو لا يمكنها، ولأسباب كثيرة، إسقاط أي من الطائرات الإسرائيلية المغيرة دورياً على أهداف سورية، عسكرية ومدنية، وتالياً وضع حد لتلك الهجمات، التي أتت على شعبيه الروسي بين أوساط شريحة من السوريين، فإن ما يثير حفيظة السوريين منذ فترة أيضاً يتعلق بمحدودية الدعم الاقتصادي المقدم إلى دمشق. وهو أمر يثير الفضول لمعرفة الأسباب التي تجعل دولة تحرك طائراتها على مدار أكثر من ست سنوات دعماً لدمشق، تطلق صواريخَ باهظة الثمن من البحر والبر ضد مواقع “داعش” والتنظيمات المتطرفة، تنشر خبراءها في كثير من المواقع العسكرية المنتشرة على امتداد المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة بكل ما يشكله ذلك من تكاليف ونفقات مالية كبيرة وخسائر بشرية، تستخدم حق النقض “الفيتو” عشرات المرات في مجلس الأمن، وفي المقابل، فإن هذه الدولة العظمى تتردد، تتباطأ، تمتنع عن تقديم دعم اقتصادي يسهم بشكل مؤثر في التخفيف من حدة الأزمة التي تعيشها حليفتها الشرق أوسطية، خاصة في موضوع الطاقة. فالملاحظ أن موسكو لم تساعد دمشق إلا بكميات محدودة جداً منذ بداية الحرب، وهذا على خلاف ما فعلته إيران مثلاً! فما هو السبب؟ وهل هناك ما يمكن للروسي فعله اقتصادياً؟
الطاقة… فقط!
لنبدأ من مجالات التعاون، التي يمكن للروسي أن يدعم بها دمشق اقتصادياً، وخياراته المتاحة في ذلك. وهذه المجالات بحكم وضع بلد كسوريا خارج للتو من حرب مدمرة، كثيرة، إلا أن أهمها على الإطلاق يتمثل في قطاع الطاقة لسببين: الأول حاجة سوريا الماسة إلى حوامل الطاقة لتوفير الحد الأدنى من احتياجاتها من الطاقة الكهربائية والمشتقات النفطية، وتالياً تجاوز الوضع الراهن الصعب؛ حيث تشهد البلاد مستويات غير مسبوقة من التقنين في كميات حوامل الطاقة الموزعة على المواطنين والقطاعات الاقتصادية والخدمية. والسبب الثاني هو في كون روسيا من الدول الأولى عالمياً في إنتاج النفط والغاز واحتياطاتهما، وتعتمد على وسائل متطورة كالطاقة النووية في تزويد مدنها بالكهرباء.
وهناك عدة وسائل يمكن من خلالها إيصال الغاز الطبيعي، المشتقات النفطية، والكهرباء الروسية إلى الشبكة السورية منها:
-استغلال الربط المتحقق عام 2009 بين شبكة الغاز السورية وشبكة الغاز التركية في إطار مشروع خط الغاز العربي، لنقل كميات من الغاز الروسي المتجه عبر الشبكة التركية إلى الشبكة السورية بغية زيادة كميات الكهرباء المنتجة لتلبية احتياجات الاستهلاك المحلي، ولو بالحد الأدنى. وحسب المعلومات المتوفرة، فإن الجزء الذي يربط شبكة الغاز السورية في حلب بنظيرتها التركية لا يزال سليماً، ولم يتعرض إلى أضرار خلال سنوات الحرب، وهو يقع في منطقة تسيطر عليها حالياً وحدات قسد الكردية. وتنفيذ مثل هذا الخيار يحتاج إلى اتفاق روسي مع كل من تركيا ووحدات قسد، وهو ليس بالأمر المستحيل بالنظر إلى التفاهمات القائمة بين موسكو وأنقرة، والتي سمحت لقوات الأخيرة بدخول الأراضي السورية واحتلال أجزاء منها، وحاجة قسد لموسكو لتفادي أي هجوم تركي محتمل على المناطق الخاضعة لسيطرتها.
مع الإشارة إلى أن البيانات الرسمية الروسية تؤكد أن موسكو سلمت أنقره خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي حوالي 20.3 مليار متر مكعب من الغاز.
-نقل كميات من الغاز والمشتقات النفطية إلى مرفأ طرطوس المستثمر من قبل شركة روسية. وإذا كانت بعض السفن والبواخر الأجنبية التي تنقل نفطاً إلى سوريا تتعرض لتهديدات ومضايقات من السفن الأمريكية في عرض البحر، فإن السفن الرافعة للعلم الروسي ستكون بمنأى عن أي تهديد غربي. مع الإشارة إلى أن نقل الغاز الطبيعي بالسفن لا يقل أهمية عن نقله بالأنابيب لجهة الكمية والجدوى، وإن كانت تكلفته قد تكون أعلى أحياناً تبعاً لعوامل مختلفة.
ورغم أن موسكو ودمشق وقعتا في نهاية شهر كانون الأول من العام 2020 اتفاقاً لتزويد دمشق بكميات من حوامل الطاقة، إلا أنه لم تصل خلال العام الماضي أي كميات منها.
-تعتمد روسيا في تزويد بعض مناطقها بالطاقة الكهربائية على سفن مزودة بمولدات نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية، وهذا قد يكون أحد الخيارات المؤقتة، التي يمكن أن تلجأ إليها موسكو لمساعدة دمشق على تجاوز الأزمة الخانقة التي تعيشها حالياً، إذ يكفي برأي البعض أن ترسو واحدة من تلك السفن في مرفأ اللاذقية، أو في مرفأ طرطوس المستثمر روسياً، ليصار إلى ربطها مع الشبكة السورية، ومن ثم تبدأ بالعمل لمدة معينة بإشراف روسي كامل.
حسابات سياسية.. وعوائق!
إلى جانب ما يعتقده البعض من وجود حسابات سياسية معينة تجعل روسيا تضع سقفاً لما يمكن أن تقدمه من دعم اقتصادي لسوريا، فإن هناك عوامل أخرى يمكن أن يكون لها تأثير محتمل على شكل وحدود الدعم الاقتصادي، الذي يمكن أن يقدم لدمشق، منها:
-وجود تباينات داخلية في روسيا تحول دون رفع أو تطوير القيادة الروسية لمستوى دعمها الاقتصادي لسوريا، لا سيما وأن الحرب في هذه البلاد لم تنته فعلياً، وتالياً هناك تخوف لدى شريحة من الروس من إمكانية أن تكون سوريا قد حُضرت غربياً كمستنقع للنيل من بلادهم، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي خلال غزوه لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. وهذا مصطلح ردده أكثر من مسؤول أميركي خلال الفترة الماضية، فضلاً عن العقوبات الغربية التي تفرض على روسيا بسبب موقفها من الأزمة السورية والأكرانية.
– على خلاف الدعم العسكري المقدم من قبل الحكومة الروسية تحت بند حماية الأمن القومي، فإن العلاقة الاقتصادية في مجالاتها المتعددة هي من اختصاص القطاع الخاص الذي تستحوذ شركاته على معظم الأنشطة والقطاعات الاقتصادية داخل روسيا، وعليه فإن تعاون هذا القطاع مع سوريا سيكون رهناً بأمرين: الأول توفير تمويل هذا التعاون، وكما هو معلوم فإن سوريا تعاني من تدن كبير في إيراداتها، وهي بذلك غير قادرة على توفير تمويل يناسب حجم التعاون المطلوب. وللتوضيح فإن القرض المالي الأخير، الذي منحته الحكومة الروسية لسوريا والبالغ حوالي مليار دولار، خُصص جزء منه لتسديد مستحقات شركات روسية قامت بتوريد سلع ومواد غذائية وغير غذائية للحكومة السورية. أما الأمر الثاني فهو التخوف من “سوط” العقوبات الأمريكية بموجب قانون قيصر. وهي عقوبات قد تحد من نشاط الشركات الروسية أو تخرجها من السوق العالمية في حال تعاملها مع سوريا.
-محدودية عائدية الاستثمارات التي حصلت عليها الشركات الروسية في سوريا حتى الآن، ولأسباب مختلفة، فمن شأن نجاح مثل هذه الاستثمارات، وارتفاع عائديتها المالية تشجيع شركات أخرى على دخول السوق السورية، وضمان تمويل مشروعات تعاونها مع المؤسسات السورية وتوسيعها. لكن في الحالة الراهنة ليس هناك ما يشجع، بدليل أن حصول شركة روسية على امتياز استثمار جزء من المياه الإقليمية السورية للتنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما، لم يترجم بخطوات فعلية.
-عدم تبلور ملامح حل سياسي للأزمة السورية يعترف بشكل واضح بالمصالح الروسية في سوريا، الأمر الذي من شأنه الإسهام بإبطاء أي مشروع روسي يسعى لزيادة غير تقليدية في مستوى التعاون الاقتصادي بين البلدين.
لا تحول نوعي مرتقب!
تبدي دمشق رسمياً تفهماً لطبيعة الموقف الروسي حيال ماهية الدعم الإقتصادي المقدم لها، وتحاول استثمار الدعم السياسي والعسكري لتطوير مجالات التعاون الإقتصادي بين البلدين وفق الأطر المعتادة، وتعزيزها بين الفينة الأخرى بجملة اتفاقيات ومذكرات تعاون في قطاعات متعددة، كما حدث خلال العامين الأخيرين، خاصة مع زيارة الوفد الروسي إلى دمشق منتصف العام 2020 برئاسة نائب رئيس الوزراء يوري بوريسوف إعلانه عن تقديم مشروع تعاون “يتضمن أكثر من أربعين مشروعاُ جديداً في مجال إعادة إعمار قطاع الطاقة، وعدد من محطات الطاقة الكهرومائية، واستخراج النفط من البحر”.
(سيرياهوم نيوز-الميادين٧-١-٢٠٢٢)