السيد شبل
يرى مراقبون أن سعي تركيا للتصعيد في الملف الليبي يأتي من باب مساومة مصر من أجل حلحلة أزمة ترسيم الحدود في شرقي المتوسط.
على الرغم من أن الحديث عن فرص المصالحة المصرية التركية استغرق أكثر من عام ونصف عام حتى الآن، فإنه تصاعد، على نحو لافت، في الآونة الأخيرة. وفي هذا السياق، تصافح الرئيسان المصري والتركي في حدث نادر، على هامش افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر، الأحد 20 تشرين الثاني/نوفمبر.
فتحت تلك المصافحة المجال لمزيد من التأويلات بشأن مستقبل العلاقة بين البلدين، بعد أن خيّم عليها التوتر منذ عام 2013، عقب قيام الجيش المصري بإطاحة نظام جماعة الإخوان المسلمين عن حكم مصر، في إثر مظاهرات شعبية.
لم تكن المصافحة وحدها هي ما لفت أنظار وسائل الإعلام، بل جلس الزعيمان، عبد الفتاح السيسي ورجب طيب إردوغان، على مقربة، أحدهما من الآخر، في أثناء الاحتفال، وتوسطهما الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش. ولم تكشف الصورة الكاملة للمشهد أيَّ نوع من التوتر أو التحاشي، مثلما كان يجري عندما تتلاقى الوجوه في أي حدث دولي مصادفة، كما كانت الحال في قمة برلين عام 2020، على سبيل المثال.
بحسب المصادر، فإنه، منذ اتفاق العلا الذي تم توقيعه في كانون الثاني/يناير 2021، تؤدي الدوحة الدور الرئيس في التقريب بين القاهرة وأنقرة. وانتهز الأمير القطري، تميم بن حمد، فرصة احتفالات كأس العالم، فحثّ السيسي وإردوغان على المصافحة، ثم إعطاء الإعلام رسالة إيجابية بشأن مستقبل العلاقات.
ما تريده أنقرة.. وترتاب منه القاهرة
تركّز الدولة التركية، في كل تصريحاتها بخصوص التصالح مع مصر، على ملف ترسيم الحدود البحرية في شرقي البحر المتوسط. فتركيا ترغب في التنقيب عن الغاز وفق النحو الذي يساعد على تنشيط اقتصادها، الذي يعاني منذ فترة طويلة نتيجة هزّات عنيفة. وبالتالي، فهي تريد أن تكسر العزلة التي تم فرضها عليها في هذا الإطار، وتشعر بأن القاهرة، التي تقود منتدى غاز المتوسط، هي بوابتها الوحيدة المتاحة لتحقيق هذا الغرض.
واتضح ذلك في تصريحات الرئيس التركي، الإثنين 21 تشرين الثاني/نوفمبر، أي بعد يومٍ من حفل الافتتاح ومصافحة السيسي، بحيث أكد أن “مطلب بلاده الوحيد من مصر هو أن تقوم بتغيير أسلوبها تجاه الوضع التركي في البحر المتوسط”.
وعلى الرغم من أن إردوغان ذكر مسألة مصالح بلاده في شرقي المتوسط، ضمن سياق عام من التصريحات الودودة تجاه مصر، والتي عرض فيها العلاقات التاريخية بين البلدين، وأكّد السعي نحو اتخاذ مزيد من الخطوات في اتجاه تطبيع العلاقات، فإنّ ذكره المسألة باعتبارها “مطلباً وحيداً” يكشف النظرة التركية إلى الأمور، ويؤكد ما تكتبه الأقلام المصرية المقرّبة إلى الدولة منذ شهور، ويتمحور حول موضوع مفاده أن “الغاز يُعَدّ المحرك الرئيس وراء ودّ تركيا تجاه مصر”.
تعقيب مصر الرسمي على “مصافحة المونديال” كان إيجابيّاً، بحيث قال المتحدث باسم الرئاسة المصرية، بسام راضي، إن “الرئيس السيسي تصافح مع نظيره التركي إردوغان، إذ تم التأكيد المتبادل بشأن عمق الروابط التاريخية التي تربط البلدين والشعبين المصري والتركي، وأنه تم التوافق على أن تكون تلك بداية لتطوير العلاقات الثنائية بين الجانبين”.
لكنّ المحللين المصريين، الذين استضافتهم وسائل الإعلام الموالية للدولة، أكّدوا أن القاهرة ليست مرتاحة إلى الخطاب التركي، الذي يركّز على مسألة التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، وأن الدولة المصرية تشعر بأن أنقرة لا تريد مصالحة تشمل جميع الملفات العالقة، بل تسعى لتحقيق مصالح اقتصادية بعينها.
ما أكدته المصادر الدبلوماسية أيضاً، أنه لا توجد رغبة لدى أحد في القاهرة في تصعيد الصدام مع تركيا أو غيرها من الدول الكبرى في المنطقة، انطلاقاً من أن هذا السلوك لا يندرج ضمن الخط العام للسياسة الخارجية المصرية منذ عقود، لكن الدولة المصرية أيضاً لا تشعر بالاطمئنان لأنها لا ترى من الجانب التركي ما يمنحها الثقة الكافية.
كذلك، يكشف التوجه العام للسياسة الخارجية المصرية حرصاً أكيداً على الاحتفاظ بالعلاقات الوثيقة باليونان، وأن مصر لا يمكن أن تؤيد أي تغيير في ترسيم الحدود البحرية وفق النحو الذي يُرضي أنقرة. وعلى رغم كل ما سبق، فإن الباب سيُترك مفتوحاً أمام التشاور والتفاهمات، ولو على سبيل اختبار جدية النيّات التركية.
الملفات العالقة.. ليبيا أبرزها
بطبيعة الحال، تنظر مصر إلى ليبيا انطلاقاً من أنها عمقٌ استراتيجيّ لأمنها القومي. وبذلت الدولة المصرية، خلال الأعوام الثمانية الماضية، جهداً كبيراً، سواء عبر السبل العسكرية أو الدبلوماسية، من أجل تأمين مناطق شرقي ليبيا، وجعلها خالية من التنظيمات المسلحة، التي كانت تتعاون مع تنظيمات شبيهة داخل مصر لتنفيذ عمليات ضد قوات الأمن المصرية.
كان التحالف، الذي شكّلته مصر مع عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، يطمح إلى أن يسيطر الجيش الليبي، الذي ينتشر في شرقي البلاد، على العاصمة طرابلس وكامل مناطق غربي ليبيا. وأوشك الأمر على التحقق خلال عامي 2019 و2020، لولا الدعم الذي قدمته تركيا إلى السلطات في غربي ليبيا.
منذ هذه الأحداث، لا ينقطع إعلان القاهرة رفضها القاطع أيّ وجود عسكري لتركيا في ليبيا، كما ترى أن حكومة طرابلس، التي يقودها عبد الحميد الدبيبة وتتعاون مع أنقرة، فاقدةٌ للشرعية.
وكانت الخارجية المصرية عبّرت، نهاية الشهر الماضي، عن رفضها للاتفاقيات الجديدة التي وقعها الدبيبة مع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، والتي تركز على التعاون في المجالات الأمنية والعسكرية، الأمر الذي يعني انغماساً أكبر للجيش التركي في الميدان الليبي، ولو من باب التدريب ونقل الخبرات.
ثم أعقب ذلك إعلان القاهرة توقف الجلسات المشتركة بينها وبين أنقرة، والتي كان تم إعلان بدء العمل فيها في أيار/مايو 2021 على مستوى كبار المسؤولين في وزارتي خارجيتَي البلدين.
في ضوء ذلك، يرى مراقبون أن سعي أنقرة للتصعيد في الملف الليبي يأتي من باب مساومة مصر من أجل حلحلة أزمة ترسيم الحدود في شرقي المتوسط، الأمر الذي يتيح لها مكاسب أكبر في ملف الغاز، كما يسمح لها بتوجيه ضربة إلى اليونان، في حال نجحت في مساعيها وأجبرت القاهرة على مطاوعتها.
لكن المعضلة هنا، وهي أن ذاكرة القاهرة تحتفظ بمواقف سياسية مريرة بعد عام 2013، تجعلها قلقة للغاية من تقديم أي تنازلات في التعامل مع أنقرة، سواء في ملف شرقي المتوسط أو ليبيا، كما أنها لا تثق بأن الحكومة التركية ستبادر إلى ردّ “الإحسان السياسي” بمثله، وخصوصاً أن الرعاية التي يتم تقديمها إلى جماعة الإخوان لا تزال قائمة، وهو أمر شديد الحساسية بالنسبة إلى مصر.
الإخوان.. كقربان تركي؟!
اتخذت أنقرة، خلال الفترة الماضية، عدة خطوات لكبح نشاط جماعة الإخوان، منها إغلاق عدد من القنوات التابعة للجماعة، كانت أبرزها قناة “مكملين” في نيسان/أبريل 2022، بالإضافة إلى التنسيق الأمني لتسليم عدد من قادة الإخوان المطلوبين لدى الدولة المصرية، وهو أمر استقبلته القاهرة بترحيب بالغ. فغالباً ما يكون الجانب السياسي بالنسبة إلى النظام المصري أهم من عدة جوانب أخرى. والسياسة المصرية، بصورة عامة، لا تريد صدامات خارجية، ما لم يتم استفزازها.
فالمؤشرات تدلّ على أنه لو ذهبت أنقرة إلى حد رفع الحماية بصورة كاملة عن جماعة الإخوان، فإن هذا سيرفع بدوره الحرج عن الدولة المصرية للمبادرة نحو اتخاذ خطوات متسارعة في اتجاه تحسين علاقاتها بتركيا. لكن، هل تقوم أنقرة بهذا الأمر فعلاً؟!
يخبرنا المشهد العام بأن الدولة التركية قد تتخذ خطوات معينة في ملف العلاقة بجماعة الإخوان من أجل إرضاء النظام المصري، لكن، سيكون من الصعب التضحية بالعلاقة على نحو كامل كما يأمل المصريون. فبعيداً عن الأيديولوجيا المشتركة بين جماعة الإخوان وحزب العدالة والتنمية التركي، فإن أنقرة تعدّ تلك الجماعة أهم أدواتها للتأثير في العالم العربي، وهي عكازها الذي تعتمد عليه في بلدان عربية، مثل سوريا وليبيا. وبالتالي، ثمة مصالح لا يمكن للدولة التركية القفز عليها في سبيل كسب رضا القاهرة.
خطوة إلى الأمام.. وخطوتان إلى الخلف
يبدو ملف التصالح بين القاهرة وأنقرة معقداً إلى حد كبير، فمساعي تطبيع العلاقات دوماً تتعثر بصورة سريعة، ففي حزيران/يونيو الماضي، عندما تسلم صالح موتلو شان مهمّات عمله كقائم بأعمال السفارة التركية في القاهرة، عُدّ الأمر دلالة على اقتراب الميعاد النهائي لطي الخلافات، إلّا أنه سرعان ما كشفت التسريبات الإعلامية وجود خلافات تستعصي على الحل بين الأجهزة الأمنية والسيادية في البلدين، بشأن ملف المصريين المنتمين إلى جماعة الإخوان والموجودين في الأراضي التركية، وكذلك بشأن طبيعة الدور التركي في غربي ليبيا وشمالي شرقي سوريا.
في داخل تركيا، ثمة ضغوط شعبية على الحكومة بهدف التوصل إلى حلول مع مصر، تُجنّب البلاد خسارة بلد عربي كبير، وتضمن لتركيا مصالح اقتصادية أوسع. كذلك، لم ترغب القاهرة يوماً في استعداء أنقرة، بل كان السلوك المصري دوماً محصوراً في إطار رد الفعل.
لكنّ ما يعقّد الأمور هو أن عامل الثقة مفقود إلى حد بعيد و”الكيمياء السياسية” غائبة، بسبب تعدد نقاط الخلاف التي تحتاج إلى حلحلة. فوجهات نظر البلدين تتباين إزاء عدد من الملفات الإقليمية، الأمر الذي يجعلهما على طرفي النقيض. وعليه، فإن احتمالات الوصول إلى تفاهمات مرهونة، بدرجة أو بأخرى، بنزول طرف عند رغبات طرفٍ آخر.
سيرياهوم نيوز1-الميادين