ثيودوروس أنجيلوبولوس” هو مخرج يوناني اشتهر بأعماله السينمائية ذات الرؤية العميقة والموضوعات الفكرية المرتبطة بمفاهيم الموت والحياة، والتاريخ والهوية من تجارب الطفولة المفجعة بما في ذلك اعتقال واختفاء والده خلال أحداث محاربة النازية في ديسمبر 1944 في أثينا . كانت نهاية رحلته مأساوية في عام عند طريق اصطدام دراجة رجل البوليس عند عبورالمخرج الشارع خلال تصويره آخر أفلامه في عام 2012 “البحر الآخر ” وهو الجزء 3 من ثلاثية اليونان الحديثة . ثيو أنجيلوبولوس معروف على نطاق واسع بكونه أعظم صانع أفلام في اليونان بعد أن صاغ رؤية ملحمية لليونان الحديثة من خلال التحف السينمائية التي سرد فيها تاريخها الاجتماعي والسياسي المضطرب. ولادته في عام 1935عندما كان صغيراً وبعمر حوالي 16 عاماً كتب الشعر،ونشر بعضاً منه في المجلات الأدبية . توجه لدراسة القانون عندما كان شاباً في اليونان لكنه غادر الجامعة عشية امتحاناته النهائية لأداء خدمته العسكرية . ثم جاءت السينما التي جذبت أهتمامه واستولت على تفكيره، وحسب قوله : ” السينما تمنحه الشعر والصورة في نفس الوقت وهي مغامرة غير عادية”. دائماً كان يعمل مع نفس الفريق من المصورين والفنيين ، وغالباً ما يكون نفس الممثلين .
بعد دراسته للسينما في باريس، عاد ثيو أنجيلوبولوس إلى اليونان وعمل ناقداً سينمائياً في صحيفة يسارية حتى أغلقها المجلس العسكري في عام 1967. وعندها ذهب خلف الكاميرا. حين كان يعيش في اليونان خلال سنوات المجلس العسكري، ظل استفزازياً كما هو الحال دائماً، أخرج فيلم يوم من 36 عام 1972 وكان محوره اغتيال نقابي في فترة حكم الديكتاتورية المتمثلة بالجنرال ميتاكساس . فيلم أنجيلوبولوس “الأبدية ويوم” عام 1998 الفيلم الذي فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي، بطولة الممثل السويسري برونو غانز في دور شاعر يوناني أرمل يعاني من مرض عضال وبسبب ابتعاده عن ابنته، ينقذ لاجئاً ألبانياً يبلغ من العمر 8 سنوات ويعود معه إلى ألبانيا للبحث عن عائلة الصبي الممزقة. يتناول الفيلم صعوبة الوجود والحالة الإنسانية ، الولادة والموت، الحنين إلى الماضي، الأمل، الشيخوخة والشباب ، والحب، وكل تلك الأشياء المشتركة بين كل إنسان . لغته شاعرية وتتميز بجمال التصوير السينمائي ، وحركات الممثلين الحبلى بالمعاني والتأويلات ، يندمج الماضي والحاضر بطرق موحية ولكنها مربكة في بعض الأحيان كما هو الحال في جميع أفلامه
(هذا العالم خلق لكي يكون فيلما) تلك هي مقولة المخرج اليوناني ثيو أنغيلوبلوس و تتجسد تلك المقولة في فيلمه (الخلود ويوم واحد) ، يحكي أنجيلوبوليس في هذا الفيلم عن شاعر يحتضر ونهاية حياته تقترب يُدعي اليكساندر، يؤدّي دوره المُمثل برونو غانز، يعيش في منزل عائلته القديم على شاطئ البحر بالقرب من ثيسالونيكي ، قبل رحيله يعمل على تأمين حياة كلبه، لذا يحاول إيجاد مكان جديد وشخص يعتني به، يزور ابنته ويقترح عليها أن تعتني به ،غير ان زوجها لا يحب الكلاب، بالإضافة إلى ذلك، ابنته وصهره يخططان لبيع المنزلالذي تضرر قليلاً بسبب الزلزال . يسلم ابنته مجموعة من الرسائل من زوجته آنا (إيزابيل رينو) يعود تاريخها إلى سنوات عديدة . تقرأ الأبنة إحدى رسائل والدتها إلى والدها الشاعر، حينها تتكشف لها عزلة والدها ألكسندر الى الحد الذي لا يبادل زوجته العاطفة وهي العاشقة والشغوفة به، كان شديد التركيز على ذاته ومنجزه الادبي ومنشغلًا بكتاباته. عاش سنوات طويلة في مُحاولة لتكملة قصيدة شاعر يوناني قديم، جفّت معاني الشعر لدي الكسندر وتاهت أفكاره فراح يبحث عن الكلمات ويشتريها حتّى يُنهي ما بدأه، تتكشف لنا حياته وحياة الشاعر الذي أراد الكتابة عنه، يتوه في الطُرقات ويسرح مع ذكرياته .
تتداخل أحداث الفيلم بين اليوم الحاضر وذكرياته مع زوجته وتختلط الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل لرجل يحتضر، يُقابل بالصدفة طفلاً مُهاجرا ويقرّر مُساعدته. تنسج الحكاية بمهارة، إنه يفكر في الحاضر قبل يوم من دخوله المستشفى. كل أحداث الفيلم خلال أربع وعشرين ساعة، ذكريات الماضي، وهي في الحقيقة ليست «ذكريات الماضي» بالمعنى التقليدي لأن اليكساندر المتقدم في السن هو نفسه في فترات شبابه. إنها وسيلته الوحيدة للهروب من الماضي الملون بالندم ومن حيرة الموت وسلواه الوحيدة من تأنيب الضمير والندم . يتجول في شوارع اليونان الممطرة قرب نهاية حياته، شخصية حزينة وحيدة. يسترجع ضحكه ورقصه مع زوجته على الشاطئ . الشاعر كان مدمنًا على العمل وبشكل دفعه هوسه بكتاباته إلى إهمال زوجته آنا (إيزابيل رينو) وابنته الوحيدة . واليوم زوجته (آنا) ميتة وهو على وشك اللحاق بها و يقضي ساعاته الأخيرة خارج المستشفى يتجول في بلدة ساحلية تغمره ذكريات الماضي .
في اليوم الأخير في حياة الشاعراليكساندر وقبـل موتـه في الغـد بسبب أصابته بالمرض المميت. بينما كان يقود سيارته بنفسه إلى المستشفى، يلتقي بطفل ألباني لاجئ، عند تقاطع شوارع التوقف تطارده الشرطة. الصبي متشرد يقوم بتنظيف نوافذ السيارات، يفتح الباب باندفاع ويخبر الصبي الصغير بالدخول إلى السيارة وينقذه من قبضة الشرطة . وبعدها ينقذه من مزاد في السوق السوداء للأطفال المختطفين. مع اقتراب اليكساندر من نهاية رحلته في هذه الحياة، يرى في الصبي المتعطش للحب تعويضا لأي شخص آخر أهمله في حياته التي كرسها أولاً وقبل كل شيء للشعر والأدب . لقد بدأ هذا السيل من الندم والأسف والشك الذاتي بالفعل من خلال اكتشافه لرسالة عمرها 30 عاما كتبتها زوجته التي ماتت منذ فترة طويلة. في هذه الرسالة المفجعة التي لم يرها ألكساندر أبدا حتى هذه اللحظة، تتوسل فيها آنا رفيقها المحبوب والبعيد عاطفيا ليوم واحد فقط أن يكسر وحدتها.
خلط أنجلوبولوس القضايا السياسية والفكرية مع جوانب من أحداث الحياة ومستويات العواطف، مع سرد الفيلم بشكل شعري. بصفته كاتب سيناريو، يظهر ولع أنجيلوبولوس بالحوار الشاعري وهذا نابع في الأساس من تحوله إلى صناعة الأفلام بعد التخلي عن كتابة الشعر . خلال الساعات القليلة المتبقية له يحاول الشاعر التخلص من ذنبه وندمه من خلال إعطاء شيء ذي أهمية دائمة للطفل المشرد . ثلآث شخصيـات تظهـر ملهُمه الشاعر في يـومُه الأخير لتعطيـه الكلمـات الأخيرة عن الحيـاة ، الحب، الطفولـه، الصمـت، المنفـى وَالعزلـه، وهم الشاعـر الإغريقي الوطنـي من القـرن الثامـن عشـر (ديونسيـوس سولومـس) الذي فقـد كلمـات قصيـدة لم تكتمل وسماها (السجيـن الحـر) وَالتي شرع الكسانـدر في كتابتها، ويظهر في الفيلـم كشاعر وَأديب يحاول أكمالها، وهُو أيضـاً لم يوفق لفقـدهُ الكلمات . الشخصية الثانية زوجتـهُ (آنا) الميتـة التي خطت ذكرياتهـا برسائل تركت جرحاً عميقا في روحه . أما الشخصية الثالثة فهي الطفل الألباني المتشرد. بعد إنقاذ الطفل الألباني من عصابة تبيع الأطفال للأثرياء اليونانيين الذين لا يستطيعون التبني بشكل قانوني، يحاول مساعدة الصبي ويعتزم إعادته إلى جدته في ألبانيا. وعند الوصول إلى الحدود وفي جو ضبابي ، يقدم لنا المخرج مشهد غاية في الجمال والغرابة في نفس الوقت ، تتحول الى سوراّ من الأسلاك الشائكة وتظهر الجثث على الحدود الجبلية الثلجية، وبينما ينتظران فتح البوابة ، في اللحظة الاخيرة يغيران رأيهما بشأن عبور الحدود ، بعدها يصدمنا الصبي بأعترافه للشاعر بأنه كان يكذب بشأن حياته في ألبانيا. كلاهما بالكاد يهربان من حرس الحدود الذي يطاردهما ، وينطلق الشاعر(الكساندر) وبرفقة الصبي في رحلة، ومن بين ركاب الحافلة الآخرين العديد من الموسيقيين وشاعر القرن التاسع عشر (فابريزيو بنتيفوجليو) ورجال يحملون الراية الحمراء وهو يغنون النشيد الاممي . في نهايـة الفيلم يركب الطفل السفينة مهاجراً بطريقـه غير شرعيـه لما وراء البحـر، أما الكسانـدر فيغادر لأطلال منزله القديم الذي وُلد فيـه وَأيضاً عاش فيـه مع زوجتـهُ ، إلا أن الغبار غطى زوايا البيت بصـوره شاعريـه تثيـر الأسى على الماضـي والحنين اليه،. يتوجه الكسانـدر للبحـر الذي يطل عليـه البيت الذي فيـه عالمهُ الآخر حيث تتجلى الجزيرة القديمـة التي يتوقف عندها الزمن . الفيلـم من جماليـات السينمـا الشعريـة التـي تبحـث عن المعنـى داخـل الإنسـان حيث يتطرق إلى طبيعة الحياة والفن والندم وحتمية الموت . اغتراب الكساندر الأخير ليس مبهجا ! , ويرسم المخرج ذالك في مشهد عندما يدخل منزله القديم الذي باعته ابنته لغرض هدمه . ينظر حوله ويخرج من الباب الخلفي إلى الماضي المشمس، حيث تغني زوجته آنا وأصدقاؤها الآخرون ثم توقفوا وطلبوا منه الانضمام إليهم ، ثم يبدأون بالرقص مبتهجين بنعمة الحياة وجمالها ، بعدها تبتعد الكاميرا ببطء حتى يختفي الشاعر من الرؤية . ينجرف ألكساندر الشاعر في رحلة من الخيال والذاكرة حين يجعل يومه الأخير على الأرض يصل إلى حد الحلم ، ويسعى إلى تخفيف خوفه وقلقه من ترك هذه الحياة من خلال اكتشاف ما كان يخفيه من حياته، حتى في لحظة ما سأل والدته المريضة ” لماذا يا أمي، لا شيء يحدث كما نتمنى؟ لماذا؟ لماذا نتعفن في صمت ممزق بين الألم والرغبة؟ لماذا عشت حياتي في المنفى. قولي لي يا أمي، لماذا لا يتعلم المرء أن يحب؟ “.
بصفته كاتبا وشاعرا مشهورا، فقد كرس حياته لعمله الأدبي، وبدوره لم يشعر أبدا كما لو أنه قد أنجز أي شيء، والرحلة التي يأخذنا بها صانع الأفلام ثيودوروس أنجلوبولوس هي رحلة توق وجودي مليئة بالشعر من خلال الحوار والفن البصري الرمزي عبر المشاهد الأخاذة التي تشغل حيزاً في ملء الفراغ المؤلم في يوم احتضاره. فيلم (الخلود ويوم ) هو حكاية حزينة وتأملًا مؤلما في الحياة، يصور لنا بطريقة غير مباشرة رحلة ما قبل الموت ورحلة الاحتضار التي يعيشها هذا الشاعر ، والذكريات التي تتمثل له بالمشاهد واللحظات السعيدة في بيته وبين عائلته وزوجته الجميلة التي رحلت مبكراً وهي في ريعان شبابها، إنها ذكرياته الجميلة ويتخلل هذه الصور المتخيلة، رحلته في الواقع وفي موطنه اليونان الذي أصبح أشبه بمكان للأشباح ، وحكايته مع ذلك الفتى الصغير المشرد القادم من ألبانيا التي مزقتها الحرب والفقر. الفيلم في جوهره تأمل في فعل الكتابة والإبداع، على الرغم من نجاحه في حياته المهنية المختارة، إلا أنه يعتقد أنه كان فاشلاً وذلك ببساطة بسبب الفكرة القائلة بأن الكلمات لا يمكن إلا أن تلمح إلى التجربة وليس تسجيلها .
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم