آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » علي شريعتي… أصالة الفكر الثوري!

علي شريعتي… أصالة الفكر الثوري!

 

جاد حجار

 

 

 

في الذكرى الخمسين على وفاة المفكر علي شريعتي (1933 ــ 1977)، نشرت قناة «الجزيرة» وثائقياً بعنوان «علي شريعتي: المفكّر الثوري الذي غيّرت أفكاره إيران».

 

الرسالة الأخيرة لابنه

آخر ما كتبه علي شريعتي قبل وفاته كانت رسالة إلى ابنه يقول فيها: «أحمد الله لأنني عانيت كل التجارب والنكسات المتعاقبة، ولا يزال عودي صلباً (…) إن بعض علماء النفس يقولون إنّ الجيل الواحد لا يحتمل أكثر من هزيمة واحدة، وها أنذا أعد نفسي للهزيمة السادسة أو السابعة، الهزيمة أم النصر… وما الفرق لنا؟

 

إن ذلك مهم جداً للتجّار والرياضيين ومحترفي السياسة. أما بالنسبة إلينا، فالمهم هو أداؤنا لرسالة الله وقيامنا بواجبنا تحت كل الظروف وفي مواجهة كل الاحتمالات، فإذا انتصرنا، نرجو من الله أن يقينا شرّ الغرور ونزعة الظلم واضطهاد الآخرين. وإذا هزمنا نرجو من الله أن يقينا من الذلّ والهوان والخضوع».

 

طفولة تفتّح وعيها على محمد مصدق

في أواخر عام 1933، وُلد علي شريعتي في إحدى قرى محافظة مشهد الإيرانية لأسرة متدينة معروفة برجال العلم والدين.

 

كان والده محمد تقي شريعتي، إحدى أبرز الشخصيات التي تحاضر في «مركز نشر الحقائق الإسلامية». خلال مراهقة شريعتي، انكبَّ على قراءة كتب التصوف، وعاش هائماً في سماوات بعيدة، لكنّ إعصاراً مفاجئاً هزَّه من مقعد عزلته الهادئ. لم يكن ذلك الإعصار سوى تأثير رئيس الوزراء محمد مصدق فيه. فقد كان الأخير صاحب أجندة قومية وأراد تأميم النفط الإيراني.

 

بعد ذلك، طوى شريعتي كتب الفلسفة والتصوف واتجه إلى السياسة، وسأل: ما العمل؟ يقول شريعتي: «دفعتني ظروف معيشتي، وتعليمي وفِكَري، وبالأخص روحي، إلى أن أشيخ باكراً في طفولتي».

 

 

 

كان الحدث الأهم في حياة شريعتي ظهور محمد مصدق الذي أمّم نفط إيران، ما أدى إلى تنظيم انقلاب عليه بدعم من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا؛ ففي صيف عام 1953، عُزِل محمد مصدق من رئاسة الوزراء بقرار من الشاه محمد رضا بهلوي.

 

في ذلك الوقت كان شريعتي في سنِّ العشرين، يخرج في جنح الظلام مع أحد رفاق النضال ويكتب شعارات داعمة لمصدق، ومناهضة للشاه على الجدران في مدينة مشهد.

 

الأفكار أخطر من الرصاص

في زنزانة «قزل قلعة» الموحشة، حيث ينساب نور خافت من نافذة صغيرة، جلس شاب نحيل يراقب ظلال القضبان على الجدار. كان علي شريعتي في الرابعة والعشرين عندما ذاق مرارة السجن للمرة الأولى عام 1954.

 

اعتُقل بسبب مشاركته في احتجاجات طالبية ضد انقلاب 1953 الذي أطاح برئيس الوزراء محمد مصدق. في مذكراته التي كتبها لاحقاً، وصف تلك اللحظات بقوله: «كنت كالطائر الذي حطم قفصه، فاكتشف فجأة أنّ العالم أكبر من ساحة الجامعة وأضيق من السجن الانفرادي».

 

دعا إلى إسلام

ثوري يجمع بين الروحانية والعدالة الاجتماعية

 

لم تكن تلك مجرد بداية لنضال سياسي، بل كانت لحظة تحول جذري في وعي الشاب الذي نشأ في كنف عائلة دينية مثقفة. والده، الشيخ محمد تقي شريعتي، كان من روّاد الإصلاح الديني في مشهد، غرس في ابنه حب المعرفة والجرأة في طرح الأسئلة المحرمة. في السجن، حيث كان السجناء السياسيون يتبادلون الأفكار خفيةً، اكتشف شريعتي أنّ الأفكار قد تكون أخطر من الرصاص.

 

في السجن… اكتشف الحرية

في عام 1957، وجد شريعتي نفسه مجدداً خلف القضبان، هذه المرة بتهمة «إهانة الذات الشاهشاهية» أي الشاه. في أحد الأيام، دخل الجنرال تيمور بختيار، رئيس جهاز السافاك المخيف، إلى السجن للقيام بجولة تفتيشية.

 

تقول الروايات إنّ بختيار توقف أمام شريعتي، ونظر إليه من رأسه إلى قدميه ثم قال بسخرية: «أهذا هو الشاب الخطير الذي يقلق مضاجعنا؟ كنت أظننا قبضنا على أسد، فإذا بنا أمام هريرة!».

 

لكن السجين الشاب لم ينبس ببنت شفة. كانت تلك السخرية القاسية شرارة أضاءت في ذهنه فكرة ستلازمه طوال حياته: «القوة الحقيقية ليست في عضلات الجلاد، بل في قوة الفكرة التي لا تقهر». بعد سنوات، سيذكر شريعتي هذه الحادثة في إحدى محاضراته قائلاً: «لقد ظنوا أن السجن يمكن أن يكسرنا، لكنهم لم يعرفوا أنّ الأفكار الحرة تصنع سجونها الخاصة».

 

فرنسا ترفع شعار الحرية وتسحقها تحت قدميها!

في عام 1959، حصل شريعتي على منحة للدراسة في فرنسا. كانت باريس في تلك المدة تغلي بالحراك الفكري. في مقهى «لي دو ماغو» الشهير، حيث كان سارتر ودو بوفوار يتردّدان، جلس شريعتي للمرة الأولى يسمع نقاشاً عن «معذبو الأرض» لفرانز فانون. كتب لاحقاً: «شعرت كأنني اكتشفت قطعة من الأحجية التي كانت تنقصني».

 

لكن باريس «عاصمة الأنوار» أظهرت له وجهها الآخر أيضاً. في يوم ممطر من أيام 1961، وجد شريعتي نفسه مضطراً إلى الاختباء في أحد الأزقة بعد مشاركته في تظاهرة لدعم الثورة الجزائرية. كانت الشرطة الفرنسية تطارد المتظاهرين بعنف. في رسالة إلى صديق، كتب: «اليوم فهمت معنى التناقض: هم يرفعون شعار الحرية ويسحقونها تحت أحذيتهم!».

 

في غرفته الصغيرة في الحي اللاتيني، كان شريعتي يعكف على ترجمة مقال للمستشرق لوي ماسينيون عن سلمان الفارسي. عندما نشر الترجمة، هاجمه رفاقه اليساريون: «بدلاً من أن تترجم لنا ماركس، جئتنا بهذه الخرافات!». في الجانب الآخر، انتقده رجال الدين التقليديون لـتجرّئه على تقديم شخصية إسلامية بطريقة غير مألوفة.

 

كانت هذه التجربة مؤلمة لكن ضرورية. كتب في مذكراته: «اكتشفت أنني لا أنتمي إلى أي معسكر، وأن طريقي سيكون شاقاً». في هذه المدة، بدأت ملامح مشروعه الفكري تتشكل: إسلام ثوري يجمع بين الروحانية والعدالة الاجتماعية، بعيداً من مادية اليسار وتقليدية رجال الدين.

 

مشروع التحرّر من الهيمنة الغربية

يطرح شريعتي التحرّر من الهيمنة الأجنبية على نطاق أوسع. نطاق لا ينحصر في الهيمنة السياسية أو الاقتصادية، بل يتسع إطارها ليشمل الهيمنة الحضارية قبل أي شيء، فالهيمنة السياسية والاقتصادية فرضت الهيمنة الحضارية بالعنف، فصارت تروّج لثقافتها التي تكتسح ثقافة غيرها، وأصبحت الدول المُستعمَرة سوقاً كبيرة لسلع الدول المستعمِرة.

 

أبحر شريعتي في تجذر هذه الظاهرة عبر التاريخ، فدائماً ما استعانت السلطة السياسية (فرعون وهامان) بالسلطة الاقتصادية (قارون) تحت غطاء السلطة الدينية ومباركتها لبسط نفوذها على الشعوب التي تبسط نفوذها عليها.

 

وبرز مصطلح «الاستحمار» من تسخير الطبقات الحاكمة للمستضعفين ليعملوا لديها كالحمير. يؤكد شريعتي أنّ ظاهرة الاستحمار لم تتوقف منذ ذلك الزمن، بل ظلت شرع المستبد، سواء كان مستعمراً أو حاكماً محلياً. ويعود شريعتي إلى رواية الحكاية من بدايتها، فقصّها منذ زمن الإسكندر ومحاولات الغرب المستمرة في السيطرة على الشرق.

 

ولمّا لم تفلح هذه المحاولات، بدأ الاستعمار في هدم البيت من الداخل: بعدما كانت وسيلته الحرب، أصبحت وسيلته أن نحتقر أنفسنا ونستهين بتاريخنا وتراثنا كي نذوب في حضارته وقيمه وثقافته. رأى شريعتي أنّ علوم الغرب الإنسانية ما هي إلا وسائله الحديثة للتجهيل، إذ يتحول الإنسان إلى بضاعة حيناً، وأداة استهلاك أحياناً، وآلة في المجتمع الرأسمالي حيناً آخر، وهذا ما يسميه شريعتي بالاستحمار الجديد.

 

ناقد لازدواجية الغرب

يستعرض شريعتي ما يراه متناقضاً بين ادعاء أوروبا للتحرر وحماية حقوق الإنسان، وبين ارتكابها المجازر خارج بلادها. ويضرب المثل بفرنسا التي تمثل عاصمتها مركز الفنون والآداب، لكنها لا تتورع عن ارتكاب المجازر على أرض الجزائر، ولا تنحصر هذه المواقف في الحكومات، بل تشمل المفكرين كذلك.

 

نادى علي شريعتي بما يسمّيه الثورة الإسلامية الأصيلة التي تتلخّص في شعارين هما: قيادة اجتماعية، وعدالة طبقية. رأى أنّ كلمة «أمة»، إذا ما فُهمت في إطارها الصحيح، فإنها تزيل التباس الفهم. رأى أنّ لفظ الأمة يتضمن الاشتراك في الهدف والقبلة والسير باتجاه هذه القبلة ووجوب الهداية والقيادة المشتركة، وهو لفظ ذو معنى أوسع من القبيلة أو الطائفة.

 

أما عن مفهوم الإسلام لدى شريعتي، فإنه يعدّ أيديولوجيا تهدف إلى بناء الإنسان الراقي، ومجتمع متوازن يقدم للمجتمعات الأخرى مثالاً يحتذى به، وهو أيضاً ثورة اجتماعية تهدف إلى بناء مجتمع حرّ لا طبقي أساسه القسط والعدل، يحفل بالأشخاص الواعين الأحرار المتحمّلين لمسؤولية كونهم منتمين إلى أمتهم.

 

إنسان هذا المجتمع عند علي شريعتي جلّ هدفه هو الاندماج في الجماعة من دون أن يذوب أو ينصهر فيها. وهو إنسان جماعي واجتماعي بالفطرة، وهو مسلم ثوري لا تخمد شعلة ثورته، لكنه مسؤول يعرف كيف يوظّف ثورته ويستخدم حقّه في الشد على أيدي من يظلمه أو يحاول ظلمه أو سلبه حقه.

 

إرث إشكالي في عالم الفكر

رحل علي شريعتي ولم يبلغ الخامسة والأربعين، لكنه ترك إرثاً إشكاليّاً في عالم الفكر. كان إنسان عصره وابناً بارّاً لحقبة الستينيات التي شهدت على حركات التحرر الوطني والثورات.

 

صحيح أنّه لم يشهد سقوط الشاه على يد الخميني والثورة الإسلامية بعد سنتين من رحيله، لكنّ صدى صوته وكلماته كان حاضراً وبقوة، فهو الذي قال: «لا تستهِنْ بالكلمة، فهي كائن حي وحسَّاس وساحر». وهو الذي قال الامام موسى الصدر عنه: «نكرّم علي شريعتي لأننا نعتبره تجسيداً لأصالة الفكر الثوري».

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

«مشكال» يحلّق بأجنحة الشباب: بيروت تكتب تاريخها على الخشبة!

      أدهم الدمشقي     «مشكال» منصة شبابية تُعيد الروح إلى بيروت، حوّلتها نضال الأشقر منذ 2012 إلى فعل مقاومة وأمل. يحتضن المهرجان ...