| أنس تللو
شاعرٌ ذو شخصية متفردة منعزلة هائمة، حرمه القدر من متعتين في الحياة المرأة والشهرة، فعاشَ بقلبٍ غريبٍ عن المجتمع وفكرٍ بعيد عن الواقع، وشغلته نفسُهُ المنعزلةُ عن كل شؤون الحياة، فنشأ وحيداً حزيناً، واستنفدَ كلَّ وقتِهِ في تضميدِ جراحِهِ، فكانت ذاتُهُ هي محور شعره، وغدا بحق معبِّراً عن الرومانسية العربية يحاكي جبران ويوازي البياتي، علماً فذاً من أعلام مدرسة أبولو التي أسست وأرست دعائم الرومانسية في الشعر العربي.
كان الشاعر علي محمود طه الذي ولد في مصر ضعيفاً في اللغة العربية، لكن ولَعَهُ بالأدب العربي، كان يدفعه إلى المطالعة بغزارة، فأعجب باللغة العربية وآدابها وفنونها، ما حدا به إلى دراسة قواعد اللغة العربية فأتقنها وأبدعَ باستخداماتها.
لقد دفعته ثقافته الواسعة المتنوعة واطلاعه الغزير على الآداب المختلفة إلى التوجه نحو الطبيعة واستجلاء جمالها بحس الشاعر المرهف، فانعكس ذلك كله على شعره، وجعله أشبه بلوحة متناسقةِ الألوان، وأضاف فوق ذلك أسلوبهُ البديعَ في الإلقاءِ، فغدا يثيرُ اهتمامَ الجماهيرِ حين يُلقي شعرَهُ بصوتٍ جهير وأداء رصين.
أمران عانى منهما الشاعرُ علي محمود طه في حياته، هما الحرمان من الزواج ومن الشهرة المستحقة، وهذا ما زادَ في حيرة قلبه، وأمعنَ في تشرُّدِ فكرِهِ، فعاش غريباً عن الدنيا… من هنا فقد كان أداؤه متمحوراً حول ذاته، إذ شغلَتْهُ نفسُهُ الحيرى عن كل ما حوله في ذاك المجتمع المملوء بالقيود التي أثخنت جراحَهُ، فأمضى العمرَ في تضميدها؛ ولم يُفلح.
كان طه لا يرى في حياته سوى الجمالِ قيمة إنسانية عليا، وكان دوماً يعتمد على الخيال سلاح الرومانسية الماضي، وقد تأثر من خلال مطالعاته بشعراء الرمزية أمثال بودلير وشيللي، فجاء شعره معتمداً على الصور الحسية والنزعة الرومانسية، وهو ما تجلى بوضوح في ديوانه (الملاح التائه)، إذ يقول:
أيّها الملاحُ قُمْ واطوِ الشِّراعا لِـمَ نطوي لجّةَ اللّيلِ سِراعا
جدِّف الآن بنا في هينةٍ وجهةَ الشّاطئ سيراً واتِّباعا
فغداً يا صاحبي تأخُذُنا موجةُ الأيام قذفاً واندفاعا
يُذكر أن الموسيقار محمد عبد الوهاب قد لحَّنَ وغنَّى له عدداً من قصائده مثل الجندول، وكليوباترا.
ولا ريب أن شاعراً كهذا منغمساً في ذاته سوف يكون غزير الإنتاج، فقد أخرج عدة دواوين شعرية، منها: الملاح التائه، ميلاد الشاعر، الوحي الخالد، أرواح وأشباح، شرق وغرب، زهر وخمر، الشوق العائد، وغيرها.
ربما لو أن الشاعر طه لم ينشغل طوال عمره بتضميد جراحه، ولو أن القدر منحه بحبوحة من العيش أوسع لكان له نصيب من الإنتاج أغزر وأوفر، إذ لم يعش طه سوى ثمان وأربعين عاماً، فقد ولد عام 1901، وتوفي عام 1949.
سيرياهوم نيوز١_الوطن