آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » عميان السياسة

عميان السياسة

د. سليمان الصدّي لوس أنجلوس- أمريكا

من أجمل الروايات التي استوقفتني رواية ” بلد العميان ” للروائي والكاتب البريطاني “هربرت جورج ويلز” وهي رواية تشبه كثيراً من الأحداث حولنا لا سيما حين تكونُالعاقلَ في زمن الجنون، والمبصرَ في أرض العميان، فحينما طغى الإسبان وكثرت جرائمهم في بيرو فرّمجموعة من المهاجرين بأنفسهم عبر جبال الإنديز، ولكن حدثت انهيارات صخرية كبيرة عزلت هؤلاء القوم في وادٍ بعيد عن بقية العالم، فعاشوا به إلى أن انتشر فيهم مرضٌ غريب أصابهم جميعاً بالعمى، وقد فسّروا ذلك بكثرة الخطايا التي ارتكبوها. وهكذا ظلّ هؤلاء القوم يعيشون جيلًا بعد جيلًا في ذلك الوادي البعيد، وهم يتوارثون العمى ويورثونه إلى أبنائهم، إلى أن ساقت الأقدار المستكشف البريطاني نيونز، وهو خبير في تسلق الجبال كان في رحلة استكشافية مع مجموعة من الأصدقاء، ولكن لسوء حظه انزلقت قدمه وسقط من أعلى إلى ذلك الوادي النائي، فظن أصحابه أنه مات، ولم يكونوا على علم بوجود وادي العميان الأسطوري، لكنّه سقط على وسادة من الثلج أنقذت حياته، وحينما بدأ المستكشف الغريب المشي في ذلك الوادي رأى مدينة مبنية بشكل غريب، يخلو من التنظيم،وألوان بيوتها فاقعة ومتعددة، وتخلو من أي نوافذ فتعجب من ذلك، واكتشف أنّ تلك المدينة التي يسير بها هي مدينة للعميان، فأخذ يخبرهم عن نفسه ومدينته التي جاء منها، وأنّ الناس فيها مبصرون فتعجبوا ماذا يقصد بالبصر، فحاول إفهامهم ولكن دون جدوى، وظنوا أنّه مجذوب يهذي، واتهموه بالجنون . وبعد أن فشلت كل محاولاته بإقناعهم قرّر الهروب، ولكن فشل فعاد إليهم معتذرًا، وأنكر كل ما قاله عن البصر حتى يسامحوه ويسمحوا له بالعيش معهم، فصفحوا عنه بعد أن قاموا بجلده ثم كلفوه ببعض الأعمال. وفي هذا الوقت بدأ قلبه ينبض بالحب لفتاة جميلة من العميان، لكن على عكس نظرته كانت نظرة العميان، فقد كان يعتبرونها قبيحة جداً لأنّ أنفها مدبب وأهدابها طويلة، وحينما تقدم الشاب للزواج من والدها وقع الأب في حيرة، أيزوجها من ذلك المجذوب الذي يعدّ في مرتبة أقل منهم جميعاً، أم يترك ابنته القبيحة دون زواج! فطلب رأي الحكماء في ذلك، فجاء رأيهم قاطعاً أن لدىالفتى عضوين غريبين بوجهه يقعان فوق أنفه، هو يسميهما العينين وهما من أتلفا عقله، لذا يجب نزعهما حتى يصير الفتى كاملاً عاقلاً مثلهم، وبعدها يمكنه أن يتزوج الفتاة. بالطبع رفض الفتى أن يضحّي بعينيه في البداية، وملأ الدنيا صراخاً، ولكن الفتاة التي تحبه ارتمت بين أحضانه وأخذت ترجوه أن يفعل، وهكذا أصبح العمى هو شرط الزواج، واكتمال المواطنة في ذلك المجتمع النائي، فرضخ الشاب وخرج لآخر مرة يودع العالم الساحر بجماله، ولكنه توقف لبرهة، وأخذ يفكر في كل شيء، فانتصر بداخله حبّالحياة، وقرر الهروب للمرة الأخيرة، وبالفعل استطاع فعل ذلك، ونجا بنفسه بعيدًا عن مدينة العميان. إن حديث الرواية الحقيقي عن الجهل والفقر الفكري، وعن سهولة انتشارهما حين يجدا الخصوبة في الأرض والمناخ الملائم… وهذا الجهل هو الذي حوّل بعض الكتاب والصحفيين والمحللين السياسيين للحديث عن التحرك الروسي تجاه أوكرانيا، والقرارات الأخيرة للرئيس الروسي بوتين فيما يتعلق باستخدام النووي بوصف ذلك العمل محصلة لفشله في حربه في أوكرانيا، ويعني ذلك أنّه سيتصرف بطريقة جنونية وفوضوية ستؤدي إلى نتائج كارثية، ودخلوا في سرديات سياسية كثيرة تثبت فرضيتهم، وتتعلق بيوميات المعارك في أوكرانيا، وحصول مفاجآت هناك كالتسليح النوعي للجيش الأوكراني، والخوف من القادم، ووصف قرارات الرئيس بوتين بالفشل مرة، واليأس والإفلاس مرة أخرى. لكن في عالم السياسة تقابل هذه السردية سردية أخرى،ويقابل العمى نور، فقد كان خطاب الرئيس بوتين واضحاً في تحديد أهداف حربه بوصفها حرب إنهاء القطبية الأحادية في العالم من جهة، وإبعاد خطر الناتو في العمق الأوكراني؛ لأنّه يمثل تهديداً للأمن القومي الروسي من جهة أخرى، فهل وقعت القيادة الروسية ضحية وهم افتراض أن حشد آلاف الجنود الروس في بعض المناطق الأوكرانية كفيل بإبعاد خطر الناتو عن روسيا وإسقاط القطبية الأحادية المهيمنة على العالم؟ إنّ ثمة تصعيداً من الناتو، وتدعيماً لجبهة أوكرانيا وتضييقاً اقتصادياً على روسيا، وفي هذا السياق يتمّالضغط على أوروبا لتتحمل الكلفة العالية في سبيل الضغط على روسيا، ومما لا يدع مجالاً كبيراً للشك أنّالمعركة التي لوّح بها بوتين تشير إلى حرب عالمية ثالثة، وهو الذي أقام حسابات دقيقة قبل انخراطه في الحرب على سورية التي تعدّ الحديقة الخلفية لروسيا، فهل يعقل أنه لم يدرس المعطيات التي تحدث حوله، ويفتح حرباً على حدوده يعرف أنّ مصيرها يقرّر النظام العالمي وهو الذي يضع الأمن القومي الروسي في المقدّمة؟ إنّه يطهو الحرب على نار هادئة، فلا يعقل أن تستنفد روسيا أسلحتها التقليدية والذكية في حرب شهور في أوكرانيا وبمئة ألف جندي فقط وهي الدولة ذات المرتبة العالمية المتقدمة عسكرياً، إنّ روسيا تخوض حربها بهدوء وخصمها ليس أوكرانيا بل حلف الناتو على الجغرافيا الأوكرانية، وهي حرب كسر عظم، وحلقة في مسلسل تمّالإعداد له، وتأخذ هذه الخطة في الاعتبار استخدام السلاح النووي بكيفية تحييد أعلى نسبة من المدنيين لتحقيق أهداف عسكرية. فما أكثر أصحاب البصر، عميان البصيرة بيننا، وما من مبرر لهم غير عمى أبصار بعضهم وبصائرهم، فإما أن تستسلم وتصبح مثلهم وإما أن تسعى إلى نور الحقيقة!

(سيرياهوم نيوز6-خاص بالموقع2-10-2022)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هل يعلن ترامب الحرب على الصين؟

نور ملحم في وقت يستعد فيه الجيش الأمريكي لحرب محتملة ضد الصين، ويجري تدريبات متعددة لمواجهة ما سُمي بـ«حرب القوى العظمى»، بدأت بكين في بناء ...