بقلم:علي عبود
كنت في مكتب مستشار وزير الإعلام المرحوم يوسف مقدسي عندما دخل علينا مدير مكتب جريدة الحياة في دمشق عبدالله الدردري .. بادرني بكلمات لطيفة .. ثم جلس معنا مستمعا للحوار الدائر بيني وبين الزميل يوسف بانتظار أن يستقبله وزير الإعلام بعد انصراف ضيوفه .. فجأة تدخل الدردري متوجها بالحديث إليّ قائلا : مادمت تكتب عن تشجيع الإستثمار في سورية سأروي لك ماحدث مع والدي في وزارة الصناعة .. ونقل لنا الدردري ماحدث معه ومع والده أثناء انجاز معاملة للترخيص لمشروع صناعي وما واجهوه من مصاعب وعقبات وإرباكات وطلبات تعجيزية كفيلة بتنفير وتطفيش المستثمرين .. الخ وتمنى أن اكتب عما جرى معه دون الإشارة إلى اسم والده صاحب المشروع .. ! بعد أيام قليلة كتبت زاوية بتاريخ 8 / 11 / 1993 تحت عنوان ( التعقيد الإداري يعيق الإستثمار ) تحدثت فيها بالعموميات عن (قلة من العاملين في وزارة الصناعة احترفت أساليب التعقيد الإداري وأجادته تماما حيث تضع من الصعوبات والعراقيل أمام المستثمرين وبخاصة العائدين حديثا إلى وطنهم)! فعلت الزاوية فعلها ، واتصل بي معاون وزير الصناعة مستفسرا ومستوضحا قبل أن يقول لي أن وزير الصناعة يرغب بمقابلتي لمناقشتي في موضوع الزاوية ، وتم تحديد الموعد في الثامنة من مساء نفس اليوم .. كان من الطبيعي ان اتصل بالدردري فعرفت منه انه قرأ الزاوية وأعجبته ومع ذلك لم يتصل ليقول من قبيل المجاملة : شكرا .. قلت له : اتصلوا بي من الوزارة وحددوا لي موعد مع وزير الصناعة في الثامنة مساء ..هل تريد أن أنقل للوزير أي شيئ يهمك يتعلق بالترخيص ؟ أجابني وهو مرعوب : أرجوك لاتذكرني من قريب أو بعيد أمام الوزير .. ! استغربت موقفه ففي الأمس كان ثائرا وحانقاً على مافعلوه معه ومع والده في وزارة الصناعة طالبا بإلحاح أن اكتب عن ذلك .. واليوم هو خائف ومرعوب وربما نادماً مترجياً أن لاأذكره على الإطلاق .. ! ووعدته أن لاأفعل .. في المساء كنت دون أن أدري على موعد في وزارة الصناعة مع لعبة ( القط والفأر ) .. ! كانوا بانتظاري : معاون وزير الصناعة ومستشار وزير الصناعة ومدير التراخيص الصناعية .. ماأن دخلت عليهم حتى هبوا واقفين وأخذني المستشار بالأحضان فقد كنت أعرفه عندما كان مديرا عاما للمؤسسة العامة للصناعات النسيجية .. كان المنزعج الأكبر بينهم مدير التراخيص لأنه رأى انني وجهت له تهمة مباشرة بعرقلة المستثمرين .. بعد التحيات والمجاملات وإبداء الإعجاب بكتاباتي بادرني مستشار وزير الصناعة : – هل اشتكى لك أحد من المستثمرين .. أم تتحدث بشكل عام ؟ فوجئت بمضمون السؤال إذ لايحتاج من يقرأ الزاوية إلى الكثير من الذكاء ليكتشف انني اتحدث عن وقائع جرت مع مستثمر واحد على الأقل .. جاريته وكأنني لم انتبه إلى الفخ الذي يريد أن يوقعني به وسط إعجاب كل من المعاون والمدير إلى اسلوب إدارة المستشار للحوار : – طبعا هناك شخص واحد على الأقل عانى الأمرين في الوزارة دون أن يحصل على الترخيص .. ! انفرجت أسارير الجميع المعاون والمستشار والمدير .. وأنا طبعا .. ! توهموا انهم حصلوا على مايريدون بأسرع مما توقعوا .. ! لذا كنت أتوقع السؤال التالي من المستشار وقد وجهه لي بهدوء مصطنع : – هل تخبرنا من هو كي نستطيع مساعدته ؟ وهكذا انكشف المستور واصبح اللعب على المكشوف .. لم يهتم أحد منهم بما كتبته عن التعقيدات الإدارية والعراقيل التي يضعها المسؤولون في وزارة الصناعة أمام المستثمرين وبخاصة المغتربين .. أصبح الشغل الشاغل لهم ولوزيرهم معرفة الشاكي ليجعلوه عبرة لمن يعتبر .. وهنا تفهمت تماما الرعب التي اصاب الدردري وجعلته يطلب مني عدم ذكر والده في الوزارة .. ! كان طلب المستشار مغريا فالوزير مستعد للمساعدة وما علي ّ سوى ذكر اسم المستثمر وينتهي الموضوع فندخل إلى مكتب الوزير ونشرب القهوة .. والسلام .. أجبت المستشار ولكن بهدوء غير مصطنع : – آسف لايمكنني ان أقول لكم اسم المستثمر الآن ؟ وقف معاون المستشار الخاص للوزير بعصبية في حين احمر وجه مدير التراخيص الصناعية أما معاون الوزير فقد انكفأ على الخلف وعلى وجه ابتسامة مصطنعة .. سألني بين المزاح والجد : لماذا .. نحن نريد أن نساعد ليس إلا .. ؟ قلت له مجاريا : – طبعا أعرف أنكم تريدون المساعدة ولكن الرجل لم يفوضني بذكر اسمه .. سألتقي به غداً وأعرف منه إذا كان يوافق على إعلان اسمه أم لا .. وبصراحة فهو خائف من ردة فعل انتقامية .. ! أجاب كل واحد منهم المعاون والمستشار والمدير بطريقة مختلفة عارضا التطمينات والمساعدات والوعود بعدم الإنتقام من المستثمر المجهول .. بعد أن انكشفت لعبة القط والفأر وتأكدوا انني لن أكشف اسم المستثمر .. حاولوا أن يعرفوا من هو بأساليب ذكية يمكن أن يقع في فخها من لم ينتبه منذ البداية إلى هدفهم الرئيسي .. وقد تحفزت كليا للآتي من آلاعيبهم عندما وجدت انهم غير مستعدين للإنتظار لليوم التالي لمعرفة اسم المستثمر ويبدو انهم قطعوا وعدا لوزيرهم أن ( يجيبوا خبره ) في نفس اليوم ..! انكشفت اللعبة الجديدة سريعا فقد طلبوا مني معلومات عن مشروع المستثمر المجهول هل هو قديم أم حديث وهل صاحبه مغترب أم مقيم وما نوع الصناعة وما هي الآلات المستوردة وهل الترخيص مستجد .. وغيرها من الأسئلة التي يمكن بسهولة في حال الإجابة عليها معرفة اسم المستثمر .. وكنت أجيب على كل سؤال : لماذا العجلة غدا سأعود إلى المستثمر وربما نأتي سويا للإجابة على جميع أسئلتكم .. وعندما لم ينفع شيئ معي ( بق ) المستشار الخاص لوزير الصناعة ( البحصة ) وقال للمعاون وللمدير : لافائدة لن نصل معه إلى نتيجة .. ! طبعا لم يعد هناك من مبرر للقاء وزير الصناعة .. وما أن دخلت إلى المنزل في العاشرة ليلا حتى رن الهاتف .. عندما رفعت السماعة توقعت اي شخص على الخط الاخر باستثناء رئيس التحرير .. ولم استغرب عندما سألني : ماذا كنت تفعل في وزارة الصناعة ؟ أجبته : كانوا يستفسرون عما كتبته في زاوية اليوم .. سألني : هل يريدون شيئا معينا ؟ أجبته : لا واستغربت انتهاء المكالمة بهذه السرعة دون أن يسألني رئيس التحرير عن اسم المستثمر لأنني مازلت متأكدا انه تلقى اتصالا من الوزارة وربما من الوزير شخصيا فور مغادرتي للوزارة .. وإلا كيف عرف انني كنت هناك بعد أقل من ساعة لوصولي إلى المنزل .. ولم استغرب أيضا عدم اتصال احد من الوزارة في اليوم التالي لمعرفة اسم المستثمر ربما لأنهم تأكدوا من عدم جدوى الإتصال .. أما الدردري فلم يكلف نفسه أيضا عناء الإتصال لمعرفة ماذا حدث معي .. ولو من باب الفضول الصحفي .. ! ولا أذكر انني التقيت به بعد عام 1993 إلا عن بعد .. ! *من مخطوط كتابي قيد الصدور “إعلام لايتابع الحدث”
(سيرياهوم نيوز31-10-2021)