رفعت إبراهيم البدوي
الثلاثاء, 07-09-2021
في عام 2019 قدّم رئيس مركز كارنيغي للشرق الأوسط وليام بيرنز آنذاك دراسة واقعية عن مستقبل أميركا في المنطقة، أحدثت جدلاً واسعاً في مراكز القرار الأميركي، لتنقسم الآراء بين مؤيد ومعارض للدراسة.
دراسة وليام بيرنز أفضت إلى خلاصة مفادها أنه على الرغم من الإنجازات المهمة، التي تحققت لكن نحن في الولايات المتحدة أحياناً كثيرة لا نقرأ التيارات الإقليمية بصورة صحيحة، ونخطئ في استخدام الوسائل التي تتلاءم مع الغايات في نقطة زمنية معينة، ويعطي بيرنز مثالاً
ما بعد الصدمة الناجمة عن هجمات 11 أيلول 2001، دفعنا تعصُّبنا إلى تجاوز حدودنا العسكرية والتقليل من الاستثمار الدبلوماسي وسمحنا لطموحاتنا بالتغلب على إمكاناتنا الفعلية في المنطقة وغالباً ما كانت النتائج مخيبة بعدما اعتمدنا شتى سبل الإغراءات وبنينا افتراضنا معتمدين على مبدأ التأثير مقابل التقليل من العقبات التي تعترض طريقنا وكل ذلك أدى إلى عدم الانضباط وإلى خيبات مثيرة ما قلل بصورة مضطردة رغبة معظم الأميركيين الدخول في مغامرات بالشرق الأوسط،
يكمل بيرنز قائلاً:
ما وصلنا إليه يضع السياسة الأميركية على مفترق طرق ولنعترف بتلاشي لحظتنا وبأننا لم نعد القوة الوحيدة المهيمنة في الشرق الأوسط، لكن لا تزال لدينا يد قوية يمكن استخدامها، لأن مفتاح اللعبة الصحيحة ليس في استعادة الطموحات المبالَغ فيها والعسكرة المفرطة المستعملة في أفغانستان والعراق وسورية والخليج العربي، وليس إلى حد فك الارتباط بالكامل، بل علينا التعامل مع التحولات التي طرأت في المنطقة بواقعية أكبر وخصوصاً مع إيران سورية والعراق.
تخلص دراسة بيرنز إلى توصية بضرورة عدم الإيغال بالعقوبات الأحادية على الدول وبخفض التوتر في المنطقة والتخلي عن السيطرة العسكرية المكلفة والمرهقة للخزينة والتحول إلى الإدارة عن بعد عبر زرع الألغام الاقتصادية بين الدول والمحافظة على ارتباط العملات بالدولار الأميركي والهيمنة على منابع الغاز والنفط، الأمر الذي بات ملحاً لما فيه مصلحة أميركية إستراتيجية.
وإذا ما تابعنا سلوك الإدارة الأميركية بدءاً من عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي أعلن عن انتهاء الحروب الأميركية خارج الحدود الأميركية مروراً بعهد الرئيس السابق دونالد ترامب الذي قرر خفض عديد القوات الأميركية في الخليج مطرزاً خطابه الشهير: من يرد الحماية الأميركية عليه أن يدفع البدل المالي، وصولاً إلى عهد جو بايدن الذي اختتم عشرين عاماً من الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان بانسحاب أقل ما يوصف أنه انسحاب مذل، يتضح لنا أن توصية وليم بيرنز آخذة في التنفيذ.
إذاً المنطقة مقبلة على متغيرات في السلوك الأميركي مع دول المنطقة والذي كان متّبعاً لعقود سابقة لاسيما في إيران والعراق وسورية والتفرغ لإدارة ومواجهة خطر التنين الصيني الروسي القادم بسرعة لافتة.
تبدلت الأحوال وانقلبت المعادلات، فبعد أن بحت إيران لسنوات بالدعوة إلى عودة أميركا للاتفاق النووي صارت أميركا هي المبحوحة من دعوة إيران إلى استئناف مباحثات جنيف مقابل تريث وشروط إيرانية مدروسة بعناية وبمهارة حياكة السجاد الإيراني، الأمر الذي فرض في إيران والمنطقة واقعاً جديداً خصوصاً بعد إزاحة الإصلاحيين واستلام رجال القائد الخامنئي مقاليد الرئاسة والسلطتين التنفيذية والتشريعية في إيران.
لبنان حاز النصيب الإيجابي الأكبر من المتغيرات في إيران، فالرئيس إبراهيم رئيسي أعلن في أكثر من مناسبة أنه لن يتوانى للحظة في دعم شعب لبنان وحزب اللـه اللبناني خاصة في مواجهة الغطرسة الأميركية الصهيونية ما يعني الانتقال بالمنطقة من مرحلة الدفاع إلى مرحلة المواجهة.
الاستجابة الإيرانية الفورية لطلب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر اللـه تزويد لبنان بالمواد النفطية، لم تكن لتحدث لولا انكفاء النفوذ الأميركي في المنطقة واستثمار دول الممانعة لحظة الانكفاء لأجل ضمان حصاد أكثر أمناً وأقل تكلفة.
ما إن أشيع خبر إبحار الباخرة الإيرانية المحملة بالمواد النفطية متوجهة نحو الشواطئ اللبنانية حتى سارعت الإدارة الأميركية وأوعزت إلى سفيرتها في لبنان دوروثي شيا لإبلاغ الجهات اللبنانية الرسمية بقرار «السماح» الأميركي باستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن إلى لبنان عبر الأراضي السورية مبررة ذلك لمساعدة لبنان بتجاوز محنته الكهربائية والنفطية.
بعد عشر سنوات من جفاء لبنان الرسمي المتعمد تجاه سورية العروبة تنفيذاً لأوامر أميركية أوروبية بهدف استغلال الساحة اللبنانية منصة لضرب وإنهاك الاقتصاد السوري، صدرت التأشيرة الأميركية التي تسمح للبنان الرسمي بإعادة التواصل مع سورية الأسد والطلب منها السماح بمرور الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر أراضيها إلى لبنان.
على الفور صدر مرسوم لبناني استثنائي يقضي بتفويض وفد وزاري لبناني بزيارة سورية الأسد يتألف من نائبة رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزيرة الدفاع والخارجية بالوكالة زينة عكر، ووزير المالية غازي وزني، وزير الطاقة ريمون غجر، وبرعاية المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والتي تعتبر الزيارة اللبنانية الرسمية الأولى إلى سورية، ولتشكل الخرق الأول للمنع الأميركي الذي كان مفروضاً على لبنان منذ عام 2011.
واهمٌ من يعتقد أن أميركا سمحت للبنان الرسمي بالتواصل مع سورية عن حسن نية أو لمساعدة لبنان، لكن الحقيقة هي أن الإدارة الأميركية أدركت حجم المتغيرات في المنطقة وفضلت الانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر واقعية واللجوء إلى زرع الألغام الاقتصادية وإدارة الملفات عن بعد، كما أوصت دراسة وليام بيرنز.
أميركا زرعت لغماً في سورية وانتظرت تفجيره بوجه لبنان متوقعة تمنّع الجانب السوري تلبية طلب لبنان نظراً للجفاء اللبناني تجاه سورية والذي استمر لأكثر من عشرة أعوام، لكن سورية العروبة بقوميتها العربية وبحنكتها الإستراتيجية استطاعت تفكيك اللغم الأميركي بدبلوماسية عالية مستوعبة طلب لبنان الرسمي مبدية أعلى درجات التعاون لمساعدة الشعب اللبناني المعذب جراء الضغوط الأميركية على لبنان.
زيارة الوفد اللبناني إلى سورية لن تكون الأخيرة بل ستليها زيارات لبنانية متعددة إلى سورية ونستطيع القول إن زمن الضغوط الأميركية المفرطة على دول المنطقة قد ولى وإن مرحلة جديدة من التعاون بين لبنان وسورية أمنياً واقتصادياً وسياسياً قد فرضت نفسها، وبأن سورية العروبة هي الدولة الوحيدة الرابط الرئيس والممر الإلزامي لدول المنطقة مهما حاولوا تغيير المسارات.
إن تاريخ الشعوب يبقى الثابت والملهم الوحيد في المتغيرات الإستراتيجية، أما جغرافية الأرض فهي التي تجعل من التاريخ شاهداً، وما يجمع سورية ولبنان تاريخ من المسار والمصير المشترك وجغرافية صنعها الله، وحين تتكلم الجغرافية تتغير المعادلات وتتعطل كل أصناف الألغام.
(سيرياهوم نيوز-الوطن)