باسل علي الخطيب
أعرف جيداً لماذا انتسبت إلى حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1989، كان عمري آنذاك لا يكاد يتجاوز 17 عاماً، لم انتسب إليه لأن أبي وكل من أعرف كان منتسباً، لم أنتسب لأن ذلك كان وكأنه اجباري أو الزامي آنذاك، على فكرة تلك السياسة الشبه اجبارية في التنسيب كانت أكثر ما أضر الحزب، أنهم لطالما فضلوا الكم على النوعية، فكانت أن انفجرت في وجهنا في بداية هذه الحرب اكبر خزانات الحزب، درعا وادلب، لم انتسب لأن ذلك كان جواز المرور لاحقاً الى الوظيفة العامة، أو إلى أفاق أرحب في الحياة……. كنت أعرف أن حزب البعث هو قلعة العلمانية في سوريا و المنطقة، كنت أعرف أنه حزب العمال و الفلاحين حقاً و واقعاً، كنت أعرف أنه منا و نحن منه، كنت أعرف آنذاك أنه يشبهني و أنني أحقق بعض ذاتي فيه…… تلك السنوات السبع عشرة لم تكن مجرد سنوات فحسب، تلك كانت مئات الكتب و المقالات و النقاشات و الدورات التثقيفية و المعسكرات و الأحاديث و المحاضرات…… نحن من جيل كان يعرف أين يضع قدميه، والى اين كانت ترنو عيناه، نحن من جيل كان يعرف من هي سوريا وماهي الصهيونية، نحن من جيل كان يعرف نهرو و غاندي و تيتو و فيدل كاسترو، كان يعرف الأرسوزي و وهيب غانم و ميشيل عفلق و صلاح البيطار، نحن من جيل كان يتابع اخبار الشرق والغرب…. نحن من جيل قرأ للماغوط و أدونيس و سعيد عقل و عبد الرحمن منيف و تولستوي و داستيوفسكي و إرنست همنغواي و فولتير و تشارلز ديكنز…. نحن من جيل استمع للشيخ إمام و مارسيل خليفة و فرقة عائدون… نحن من جيل عاش مع مسرحيات غربة و ضيعة تشرين و كاسك يا وطن و بالنسبة لبكرا شو، و فيلم أمريكي طويل و نزل السرور…… قد لا نكون كلنا، لكن أغلبنا كان متخماً ببلده و وطنه و حزبه، كان مليئاً بقضايا هذا الوطن و العالم، نحن من جيل كان يجيد فك و تركيب البندقية الروسية، و كان يجيد استعمالها، و الأهم أنه كان مستعداً لاستعمالها للدفاع عن بلده، و الأهم من هذا كله أننا كنا معباؤون فكرياً لكن ندافع عن قضايا بلدنا، كنا معبأون لدرجة أنه كان من الصعب اختراقنا….. نحن من جيل اللباس الموحد في المدرسة و الجامعة، تلك الملابس التي كانت على درجة عالية من الأناقة و الهيبة في آن واحد، نحن من حيل تربى على طاعة أبوه و معلمه و بالتالي وطنه لأن الأب وطن و المعلم وطن… نحن من جيل كان يغلق على نفسه باب الغرفة لكي يحل هذه المسألة أو تلك في مواد الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، نناطحها و تناطحنا حتى نحلها، لأنه ما من مساعدة ممكنة، لا دروس خصوصية و لا معاهد و لا محاليل، نحن من جيل كنا نحصل على كل شيء بصعوبة، و لكن كنا نحصل عليه بجهدنا و كدنا، نحن من جيل كنا نقدر النعمة، نقدر أن والدنا كان يتعب حقاً في عمله ليؤمن أسباب العيش الكريم لنا، كان ذاك الراتب و على قلته كان في كل ليرة فيه بركة، نحن من جيل كانت أمهاتنا لا يمددن أيديهن إلى وعاء البرغل أو وعاء الزيت إلا ويقلن: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي على محمد و آل محمد…. نحن الجيل الذي أُصيب بأكبر صدمة، أنه تربى في طفولته و مراهقته و شبابه و عندما كانت شخصيته تتكون على شيء، ليستفيق و بعد أن صارت عنده عائلة و أولاد أنه أمام شيء آخر تماماً، فما عاد يستطيع العودة و ما عاد يستطيع التقدم، و ما عاد يعرف كيف يتأقلم، وما عاد يدري ماذا يقول لأولاده…. غبت طويلاً عن حضور الاجتماعات الحزبية، سواء بسبب أنني سافرت للدرس خارج البلد، و كانت صدمتي الأولى في رحلتي الاولى على الطائرة، عندما كان يجلس بجانبي موفد آخر للدراسة و على حساب الحزب، و رغم أن مجموعه كان 132 فقط، فقد كان موفداً لدراسة الطب، كيف لا و أبوه كان مسؤولاً في اتحاد الفلاحين…. الأيام كانت تتالى والصدمات كانت تتالى، و مع كل مرة كنت أعاين كيف أن ذاك الحزب يبتعد عني و عن غيري، لاحظوا، قلت يبتعد، و لسنا نحن من كنا نبتعد، صرت أشعر أن ذاك الحزب إياه لم يعد يشبهني، لم يعد يمثلني…. و كان أن حصلت تلك الواقعة عام 2011، و قررت العودة إلى حضور الاجتماعات الحزبية، و قررت أن أضع كل إمكاناتي الفكرية و الثقافية في خدمة حزبي لكي أنافح بهما عن وطني، و قد فعلت في هذا السياق الكثير و الكثير و كنت بارعاً في ذلك، كان آملي الأكبر أن يتعلم الحزب من أخطائه، أن يعيد كل ذاك الدم و الدمار له صوابه و رشده، أن يقف على أخطائه و يعيد التصحيح و الترميم، و لكن الصدمة الأكبر كانت أن هذا لم يحصل، بل سارت الأمور نحو الأسوأ، و كان أكثر ما يزعجني مع الرفاق تلك العنجهية و الغرور و التعالي، أنهم لايخطئون و لم يخطئوا، إن لهم الفضل الأكبر على البلد، يكررون دائماً تلك الاسطوانة المشروخة عن تاريخ الحزب النضالي و ليس بين أيديهم من شيء أو فعل حاليا ً يؤكدون به ذلك، نعم، لم يتعلم الحزب من كل ذاك الدم و الدمار و الخراب، و يبدو أنه لن يتعلم….. وجدت نفسي غريباً،و حيثما التفت حولي أجد الكثير من الغرباء، لم أعد أعرف حزب البعث العربي الاشتراكي، فهو لم يعد حزباً علمانياً، و قد طوعته التيارات الدينية، و هو قولاً واحداً ما عاد حزب العمال و الفلاحين، فكل ما يحصل على مستوى السياسة الاقتصادية هو لصالح التجار و رجال الأعمال، و بموافقة الحزب و اشتراكه، و لاهو حزب صغار الكسبة إنما كبارهم و حيتانهم، و ليس حزب المثقفين الثوريين، إنما صار مولعاً بتقريب كل أولئك الكتبة و الأمعات و بائعي الكلام …… ليس هذا الحزب هو الحزب الذي انتسبت اليه، ما عدت أعرف حزبكم أيها الرفاق، فإما أن تعيدوا تعريفه و توصيفه و من يمثل، و تقولوا أنكم تمثلون التجار و رجال الدين حتى نفارقكم، لا نلوي على شيء، أو أن تباشروا تصحيح الأمور حتى يستقيم الاسم مع الممارسات……
(سيرياهوم نيوز-٢٠-٨-٢٠٢٢)