| فراس عزيز ديب
غالباً ما تُوصف المقالات والدراسات الناطقة بالعربية والتي تتحدث عن المصيرِ الحتمي لزوال إسرائيل بالإنشائية لكونها تتعاطى بالأمنيات لا الوقائِع، كما أن علينا الاعتراف بأن فترةَ ما بعدَ الربيع العربي تركَت لنا طبقة يلفها اليأس من كل شيء وهذا مبرر، هؤلاء ببساطة يرون بأن زوال الكيان عسكرياً أمر مستحيل لأن ميزان القوى في حربٍ مصيرية ليسَ متكافئاً، هم يرون استحالةَ هذا الزوال فقط من منظورِ فشلنا، لكن لماذا لا نتحدث عن أسباب أخرى تبدو مجتمعة لحدوث هذا الزوال؟ بمعنى أصح، لماذا علينا أن نكون ملكيين أكثر من الملك إذا كانوا هم أنفسهم يعترفون بالواقع المهزوز لدولتهم والذي قد ينتهي بها إلى الزوال؟
خلالَ حديثٍ صحفي قبلَ ستِّ سنواتٍ من الآن، قالَ رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو في ذكرى ما يسمونه تأسيس إسرائيل: «سأجتهد كي تبلغ دولتنا عيد ميلادها المئة، لأن مسألةَ وجودنا ليست بدهية حيث إن التاريخ يعلمنا أن ما من دولةٍ للشعب اليهودي عمرَّت أكثر من ثمانين عاماً».
أخذَ هذا الحديث يومها ضجة كبيرة، هناك من رأى بهِ جرسَ إنذار حقيقي للشخصية الأبرز في كيان الإجرام، وعندما نتحدث عن الشخصية الأبرز فليس لكونهِ رئيس وزراء، لكن لكونهِ أحد آخر الشخصيات ممن يسمونهم الجيل المؤسس للكيان الصهيوني، والذي يعني غيابهم ونفوذهم، تصاعدَ المخاوف في الداخل الإسرائيلي من المصير الأسود لعبثية غياب رجل الدولة، مكانةَ بنيامين نتنياهو دفعت حتى وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج شولتز ليقول إن كتب وأفكار نتنياهو عن محاربةِ الإرهاب كان لها القدرة على رسمِ السياسة الخارجية للإدارة الأميركية!
هناك من رآهُ من ناحيةٍ ثانية حبلَ نجاةٍ أرادَ نتنياهو يومها التمسكَ به ليربطَ أي فكرةٍ للخروج عليهِ بالمصير النهائي للدولة، بين هذا وذاك ليسَ المهم التفكير أي الفكرتين هي الأصدق؟ المهم هنا أن الحديث عن مصير الدولة لم يعد كلاماً إنشائياً.
في أي دولةٍ في العالم فإن فكرةَ الأمن القومي تنطلِق من التعريف المبسَّط والذي يعني قدرةَ الدولة على التحكمِ بالظروف الداخلية والخارجية التي تبدو أساسية لاستقلالِ المجتمع وتحقيقِ رخائه، هذه الاستقلالية تضمن كذلك الأمر المكانة والدور، لا حديث هنا عن زوال هذه الدولة أو محوها، تقارير الأمن القومي الفرنسي مثلاً تتحدث عن التراجع في المكانة في إفريقيا والشرق الأوسط لمصلحة روسيا والصين، هذا مفهوم لكن لا مخاوف مما يسمى «زوال دولة فرنسا»، لأن العناصر التي يقوم عليها مفهوم الدولة وهي الشعب، الأرض والنظام السياسي، لا يمكن زوالهم، لكن الحال لا يبدو كذلك في دولةِ الاحتلال فهي تبدو عملياً «الدولة» الوحيدة في العالم التي تتعاطى مع مسألةِ زوالها وبقائها أكثر بكثير مما يتعاطى بهِ «أعداؤها»، فحجم ما يكتبه وما ينشره الإسرائيليون ذاتَ أنفسهم عن زوال دولة إسرائيل هو الذي يجعل هذه الفكرة مادة دسمة قابلة للمراجعة دائماً وليست التقارير الناطقة بالعربية والتي نتهمها بالإنشائية، لكن هذه المراجعة باتت تستند اليوم إلى أرضية صلبة لم تتوفر في السابق نختصرها بعبارة: احتجاجات وصدامات بين الشرطة ومحتجين إسرائيليين!
عندما ندقق بهذه العبارة تلفتنا أولاً كلمة «محتجين إسرائيليين»، من هؤلاء هل هم من «الشعب»؟!
ربما أن أكثر ما يخيف المجتمع الإسرائيلي غياب ركيزة «الشعب» الذي يرتكز عليه وجود الدولة، لأن المحاولات المستميتة لصهر المهاجرين من كل دول العالم في بوتقة واحدة هي الانتماء للدين اليهودي فشلت، الأمر مرتبط باختلاف الثقافات والتوجهات، ثمَّ إن كثراً من رجال الدين اليهودي أساساً كانوا ولا يزالون يرفضون فكرة وجود دولة لليهود لأنهم يرون بها مشروعاً سياسياً على طريقةِ الإسلام السياسي لا أكثر ولا علاقة للرواية الدينية بها، هناك من يرى بهذهِ الدولة مجردَ منتجعاتٍ سياحية لرجال الأعمال والأثرياء اليهود يدافع عنها المرتزقة بأجرٍ شهري، هذا التخبط ومع عزوف المهاجرين عن العودة باتجاه إسرائيل جعل الأنظار الصهيونية تتجه نحو القارة السمراء لتعويض النقص في الكثير من القطاعات من بينها العسكرية لدرجةٍ بات فيها الانتماء للدين اليهودي يتم على الورق، هناك معلومات أيضاً تقول إن كل ما يُحكى عن انزعاج إسرائيلي من دخول المهاجرين الأفارقة عبرَ سيناء المصرية هو مجرد هروب من الحقيقة التي تقول إن إسرائيل تسهِّل مرورهم لأنها بحاجةٍ إليهم، على هذا الأساس فإن «تحويشة شعب» لا يمكن أن تخلق لكَ وطناً ولو مرت عليك أيام مزدهرة، لأن سقوط هذه الركيزة لا يبدو سهلاً هو أشبه بكرة الثلج التي بدأت تكبر.
بذات السياق فإنهُ لا يمكن أن نشكَّ أبداً بأن تشكيلَ المجتمع الإسرائيلي على خلفيةٍ دينية تعتمد نبوءة أن هذهِ الأرض هي أرض اللـه التي سيعطيها لليهود، جعله كباقي المجتمعات الدينية والمذهبية التي لا ترى أبعدَ من الانتظار حتى تتحقق نبوءتهِ الدينية، بل من المؤسف بأن معشرَ المنتظرين الذين يدعي كل منهم على الآخر، يربطونَ كل حدثٍ وكل إنجاز بهذا الانتظار، هناك من ينتظر عودة ظهور الأئمة، هناك من ينتظر ظهور المسيح الدجال، وهناك من ينتظر ظهور المسيح الحقيقي ليؤمن بهِ، وهو ما قامت عليه فكرة الدولة اليهودية، لذلك فعندما يتحدثون عن الزوال من عدمه فإنهم يأخذونهُ من هذا المنطلق الديني البحت، أما الأفكار العقلانية التي تحدث بها إسرائيليون عن زوال إسرائيل المستندة للتشريح الاجتماعي والجيو سياسي فهي لا تبدو عند المهتمين جديرة بالمتابعة، ربما لأنها تبعد الزوال عن انتصار فكرتهم الدينية أو المذهبية، من بين هؤلاء مثلاً رئيس الكنيست السابق أفراهام بورغ الذي رأى قبل عقدين من الزمن بأن التحيز للعنف والقتل ليسَ نهائياً فهو سينقلب يوماً على دولةِ إسرائيل وسيعجِّل بانهيارها لأنه سيولِّد ملايين الغاضبين من الشعب الإسرائيلي والسياسات الإسرائيلية، ربما لا مكان هنا لسرد الكثير من هذه الأفكار التي قالها إسرائيليون بمعزل عن ميولهم السياسية، نتحدث هنا عن الواقعية التي يتمتع بها هؤلاء والتي نفتقدها للأسف في مجتمعاتنا العربية لأننا ببساطة لا نبدو قادرين على إصدار تقارير موضوعية عن الأداء الحكومي فما بالك بمستقبل دولة؟!
من جهةٍ ثانية يبدو الوضع الأمني المحيط بالكيان سبباً جوهرياً لما آلت إليه الأوضاع، لم تستطع كل التقنيات حماية الباحثين عن الأمن في دولة «الله الموعودة»، لم تستطع كل الجهود قتل كلمة «مقاومة» من فكرِ أبناءِ هذه الأرض وليس من يتاجر بها، ربما لن تسقط إسرائيل غداً وربما لن تتوسع المظاهرات لكن من المهم أيضاً أن نأخذَ بعين الاعتبار إمكانية هروب الحكومة الإسرائيلية مما يجري داخلياً عبرَ عدوانٍ سريع هنا أو هناك، هذه الفرضية تبدو منطقية ولا يمكن استبعادها لكن ما يمكن استبعاده أن يكون عدواناً خاطفاً بمعنى آخر، قد تمتلك إسرائيل قرار الحرب لكنها حكماً لن تمتلك قرار نهايتها، على هذا الأساس تبدو الحكومة بمعضلة حقيقية لتحملِ تبعات ما بعد هذه الحرب!
أخيراً، هناك أمر لابدَّ من الالتفات إليه تحديداً بما يتعلق بأسبابِ التظاهرات والشعارات المرفوعة، إذ من الواجبِ التساؤل، ألا تعني عبارات نبذ العنف وخطاب الكراهية والتطرف بما فيها نبذ الحكومة اليمينية المتطرفة التي يتهمها المتظاهرون بأنها تقود الدولة للخراب بأن هناك تبدلاتٍ جوهرية في المجتمع الإسرائيلي؟
هذا الموضوع يبدو على درجةٍ عالية من الحساسية، حتى وإن زالَ الكيان وصدقت التنبؤات، أين ستذهب هذه الملايين من البشر، البعض يقول إن عليهم العودة من حيث أتوا، لكننا ببساطةٍ لا نتحدث في خمسينيات القرن الماضي حيث كنا لا نزال في عهد الجيل الأول من المهاجرين باتجاهِ دولة الإجرام الموعودة، نتحدث هنا عن أجيال وأجيال ولدت وكبرت هنا؟ هل بات الكيان عبئاً لدرجةٍ أن هناك باتَ من يطرح في أقبيةِ السياسة الدولية حلاً يرضي الجميع، هل يمكن العودة لما قبل عام 1948 بصيغةٍ ترضي الجميع؟ قد يرى البعض هذا الكلام أضغاثَ أحلام، لكن تعالوا لنذكِّر هؤلاء بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون يوماً عندما كان يلقي خطاباً في حديقةِ البيت الأبيض، طارت إحدى الورقات فهرع الرئيس جورج بوش الابن لالتقاطها، هناك من رأى يومها بأن ما جرى إهانة للأميركي بمعزل عن الضيف، وهناك من رأى بأن كياناً أخضعَ حتى الرئيس بوش لدرجةٍ قيلَ يومها إن شارون كان يملي على بوش قراراته بما فيها الحرب على الإرهاب فمن سيتجرأ عليه؟ فماذا كانت النتيجة؟ هي ماثلة اليوم أمامنا، كما قلنا يوماً إن أميركا ليست قدراً، فإن الكيان أيضاً ليسَ قدراً، هم وليس نحن من يقول: «علينا ألا نعلو في الأرض مرتين»! هل كانت انحناءة بوش إيذاناً بانتهاءِ «علوها مرتين»؟!
سيرياهوم نيوز1-الوطن