يروى أن بدوي الجبل، كان شاعراً شديد الاعتداد بشعره، فهو القائل :
“إني أكرم شعري في متارفه… كما تكرم عند المؤمن السّور”.
وبلغ من شدة حبه لشعره، أن رفض وسام استحقاق من دولة العراق، لأنه لم يكن من الدرجة الأولى، وأرسل برقية تقريع للرئاسة العراقية، فاعتذرت الأخيرة عن خطئها وأرسلت له وسام الاستحقاق مع الامتياز.
بعضنا لم يكن ليسمع بعمر الخيام، لو لم تصدح أم كلثوم بكلماته التي ترجمها أحمد رامي ولحنها رياض السنباطي:
“أفِق خفيف الظل هذا السحر نادى دّعِ النوم وناغِ الوتر”.
فكوكب الشرق، اللقب الذي نالته أم كلثوم، لم يأتِ من فراغ، فهي أصابت من الشهرة والصيت والسطوة ما جعلها تعلي نجم أي شاعرٍ بمجرد أن تمنحه شرف الغناء من كلماته. كذلك ملحنو عصرها، إذ لم يكن الملحن يرى نفسه قد وصل إلى الكمال والمجد إلا إذا غنّت “الست” من ألحانه، والملحن الذي ستغضب عليه سوف تغيب عنه أنوار الشهرة، ولن يبقى له سوى كرسي فارغ في فرقتها الموسيقية احتراماً “للعشرة”.
وأحمد رامي مثال عن الشعراء الذين شهرتهم أم كلثوم. غنّت له أم كلثوم في بداياتها “الصب تفضحه عيونه”. بعدها، ومع صعود نجم أم كلثوم، أصبح رامي الشاعر العاشق الذي لا يكلّ ولا يملّ من إهداء أجمل قصائده إلى معشوقته الأبدية التي لم ينَل منها الوصل، لكنه حاز على المجد والشهرة والاسم المعروف الذي يحفظه الناس جميعاً حتى هذا الوقت.
وكذلك أمير الشعراء أحمد شوقي، فهو كتب قصيدةً مخصصةً للآنسة أم كلثوم، وذلك إثر لقاءٍ تمّ بينهما في حفلة معيّنة، فقد قام وقتها بإهدائها كأساً من الخمر، فلم ترفض مجاملةً له، إنما لم تشرب، فقد رفعت الكأس إلى شفتيها كأنها تشرب ولم تفعل، فأُعجب أمير الشعراء بهذه اللباقة، وكتب لها :
“سلوا كؤوس الطلى هل لامست فاها… واستخبروا الراح هل مسّت ثناياها”،
وغنّتها لاحقاً بألحان رياض السنباطي ..
غنت أم كلثوم لأبي فراس الحمداني، والبعض عندما يُسأل عن البيت الذي يقول “أراك عصي الدمع شيمتك الصبر”، يقول فوراً: “إيه… هي أغنية لأم كلثوم”.
أما نزار قباني، وبالرغم من شهرته الواسعة، فلم تكن له الحظوة في أن تغنّي له أم كلثوم سوى قصيدة وطنية: “أصبح عندي الآن بندقية”، بالرغم من أنه شاعر الغزل والنساء الأول في ذاك الوقت، وبالرغم من أن جميع المطربات والمطربين آنذاك كانوا ينتظرون كثيراً حتى يغنّوا إحدى قصائده.
أما الأمر فيختلف عندما يتعلق ببدوي الجبل، الشاعر الشديد الاعتداد بشعره، (كما ذكرت في البداية) .. وفي المقلب الآخر، كانت لأم كلثوم عادة معروفة عنها، فهي قلما غنّت قصيدةً من دون أن تضع لمستها عليها، فكانت أحياناً تغيّر المطلع وأحياناً تغيّر الكلمات بأخرى تناسب هواها، وأحياناً كانت تغيّر ترتيب الأبيات والأشطر، ووصل بها الأمر إلى دمج قصيدتين في أغنية واحدة كما حدث في “الأطلال”.
وحدثَ أن قرأتْ قصيدة بدوي الجبل التي كان عنوانها “شقراء”، وقد ارتشفت أم كلثوم بذوقها الأدبي العالي معاني القصيدة المتفردة المتجددة، وأحست إن هي غنّت هذه القصيدة فسوف تكون تحفة العصر، لأن بدوي الجبل سكب كل إبداعه الشعري والغزلي فيها، وقال على لسان الشقراء ما لم تقله أنثى في التاريخ عن نفسها:
تأنّق الله دهراً يعيد فيّا ويبدي
حتى جلاني شعراً يا حسرة الشعر بعدي
وطلبت أم كلثوم من بدوي الجبل، القصيدة كي تغنّيها، وقد ردّ الشاعر بالموافقة طبعاً، وسارت الأمور على ما يرام حتى قررت أم كلثوم الوفاء لعادتها، فطلبت منه تغيير كلمة واحدة فقط في القصيدة كلها. وكانت هذه الكلمة هي “شقراء”، وطلبت استبدالها بكلمة “سمراء”، لأنها تناسب الذوق العربي والشرقي أكثر، فكان جواب بدوي الجبل:
لا!.
حالة الدهشة والصدمة كانت من المقربين إلى البدوي، ومن أم كلثوم على حد سواء، إذ كيف لهذا الشاعر أن يرفض مجد أم كلثوم كرمى لعيني كلمةٍ واحدة؟ وحاولت أم كلثوم إقناعه مجدداً، فرفض أيضاً، فخرجت من صالونه الأدبي في دمشق غاضبةً، وأقسمت ألا تغنّي من أشعاره أبداً.
أيها الأحبة: لقد نسج بدوي الجبل هذه القصيدة على طريقة الحوار بين الشاعر والشقراء، وكأن القصيدة عبارة عن تحدٍّ بينهما، فهي قدّمت جمالها وفتنتها وهو قدّم شعره وكلماته…
وأخيراً يهمني أن يتذوق الأحبة معي هذه القصيدة, وهي:
هَدْهِدْ همومَكَ عندي على حَيائي وصدّي
حورُ النعيم تمنّتْ نُعمى هواي ووجدي
هل عندهنّ رحيقي و هل لديهنّ شهدي
يا ساكبَ الشعرِ خمراً من شعر رَبِّك خدّي
ومن معانيه عِطري ومن قوافيه وردي
تأنّقَ اللهُ دهراً يعيدُ فيّ ويُبدي
حتّى جلانيَ شعراً يا حسرةَ الشعرِ بعدي!
خيالُهُ السمحُ نَدّى ثغري ونمنمَ عِقدي
وقلبه كان كأسي وجفنهُ كان مَهدي
والأنجمُ الزُهْرُ حولي دُمىً لِلَهوي وعدّي
فغارتِ الحورُ منّي وكُلُّ زَهوٍ ومَجْدِ
وهبَّ في روضِ عَدنْ عليَّ عاصفُ حِقدِ
فكان للّهِ حكمٌ لشقوتي بل لسعدي
و اختار بُعدِيَ عنه وراح يبكي لبُعدي
دنياي أحلى و أغلى من ألفِ جنّةِ خُلدِ
أنّا الربيع المندّى قارورةُ العطر نهدي
يهيم حُسني بحُسني ويجتلي و يُفَدِّي
وجُنَّ ثَغري بريقي وَحَنَّ جيدي لزندي
وكلُّ وَشيِ حريرٍ يودُّ لو لفَّ قدّي
وكلُّ عطرٍ تشهّى أن أسفحَ العطرَ وحدي
شقراءُ تحلمُ شمسُ الـ ضحى بخدّي وبردي
رَفَّتْ خُصَيْلاتُ شَعري بأشقر النور جَعدِ
سكرانِ تيهٍ ودلٍّ …مخمورِ وهجٍ ووَقْدِ
يا شاكياً زورَ وعدي أحلى من الوصلِ وعدي
هِيامُنا يا حبيبي طيوبُ خمرٍ ونَدِّ
أريدُ طيفاً لجفني أريدُ حلماً لسُهدي
كلُّ المحبّين ملكي و أنت وحدكَ نِديّ
و كبرياءُ جمالي تريدُ منكَ التحدّي
شقراءُ يا لونَ حُسنٍ مُحَبَّبٍ مُسْتَبِدِّ
ويا جمالاً غريباً على ظِباءِ مَعَدِّ
لا وسمُ ليلايَ فيهِ و لا ملامحُ هِندي
ولا اسمرارُ الغريراتِ بالعقيقِ ونَجْدِ
ظمآنُ أنشدُ وِرداً وعند عينيكِ وِردي
يا سكرةً بعد صحوي وفتنةً بعد رُشدي
يا رغبةَ العين والقلب بعد يأسٍ وزُهدِ
بيني وبينكِ حربٌ وهولُ أخذٍ ورَدِّ
صراعُ روحينِ فيه عنفُ العدوِّ الألدِّ
وغزوُ قلبٍ لقلبٍ فتحٌ يبيدُ ويُردي
فَناءُ دنيا بدنيا وطيُّ بندٍ ببندِ
الحبُّ لا حكمُ شورى لكنَّهُ حُكمُ فَردِ
فهيّئي فتنةَ الحُسنِ كُلَّها واستعدّي.
(سيرياهوم نيوز ١-عدة مصادر اعلامية-اختيار الدكتور محمود السيد)