إسماعيل مروة
قلما نجد اتفاقاً على عبقرية شاعر كما كان الاتفاق على عبقرية نزار قباني، وها هي ذكرى ميلاده المئة تمر باحتفالات ومهرجانات في أغلب البلدان الناطقة بالعربية، وفي بعض الأكاديميات غير العربية، وكتب عن نزار الكثير، وقيل عنه وعن شعره كلام طويل، ولكن العودة إلى ما كتبه أخوة الدكتور صباح قباني الذي يصغره بخمس سنوات تعطينا صورة أكثر قرباً، وبعيدة عن التحيز من أكاديمي وإعلامي ودبلوماسي.
أسرته والشعر
في حفل تأبين الشاعر نزار قباني، يقف ليلقي كلمة آل الفقيد، وقد يكون هو الوحيد القادر على الحديث، وبألمعيته وما رآه يكتشف أنه ليس وحده المخوّل بإلقاء كلمة آل الفقيد فالفقيد ليس منتمياً لأسرة محددة، وإنما ينتمي لكل من أحبّه وشيّعه وزفّه.
«أسرة نزار هم أولئك الآلاف الذين حملوه على سواعدهم يوم شيّعوه وزفوّه كما الشهداء إلى عالم الخلود».
وهذه الأسرة الكبيرة للشاعر هي المعنية بتراثه وشعره، وليست الأسرة الصغيرة (آل الفقيد) هي المعنية وحدها، ورحيل الشاعر الجسد كان هماً كبيراً للجميع، لكن ميراثه الأدبي الفني هو الذي سيبقى أمانة لهذه الأمة، وميراثاً للعمل من أجل قضايا التحرر للأمة التي طرحها في شعره وموضوعاته.
«لقد ذهب الشاعر وبقيت القصائد.. لنظل أوفياء لصوته الذي لا يزال بيننا، كي نحمي مداخل هذا الوطن، وذاكرة هذه الأمة».
البيئة والشعر
لم يكن مرحباً بالشعر والشعراء، وفي تلك المرحلة كان الشاعر في مكانة دون أي مهنة أخرى، وما يقال من عبارات إنشائية عن الموقف من الشعراء يختصره أخوه الشاهد على ذلك، وضمن الأسرة والبيئة، وذلك في حوارية بين والده ورجال الحي حول نزار وما يريد أن يكون، وهذه الحوارية، وأظنها دقيقة تنمّ عن الموقف الاجتماعي الرافض للشعر والشعراء، المتوجس المرتاب من الشخصية الشاعرة الحرة.
«ما الذي ينوي المحروس أن يكون عندما يكبر؟
فيجيبهم أبي بكل بساطة:
ابني يريد أن يكون شاعراً!
فيتغير لون سائليه، ويتصبب العرق البارد من جباههم، ويتمتمون:
لا حول ولا قوة إلا بالله! قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!».
ميلاد الشعرية
يحدد الأخ ميلاد شاعرية نزار، فهو عندما كان الأمر متاحاً للطالب السوري، انتظم مثل غيره في رحلات داخلية وخارجية، وها هو يذهب في رحلة إلى إيطاليا عام 1939 ليعود في العام نفسه شاعراً بدأ نظم الشعر، وليتم ما بدأه في إيطاليا، ويعدّ مجموعته الأولى (قالت لي السمراء).
«شهدنا كيف ذهب في آب 1939 نزار إلى إيطاليا سائحاً فتياً، وعاد إلينا في أيلول 1939 شاعراً واعداً وكان عمره آنذاك ستة عشر عاماً».
كان ميلاداً شعرياً مبكراً استمر إعداد المجموعة بعد ذلك أربع سنوات ليضعها بين يدي أستاذه في معهد الحقوق، الأكاديمي والأديب منير العجلاني الذي استشعر ميلاد شاعر مهم على الساحة الأدبية، فالميلاد الشعري كان في صدمة الحضارة والجمال، للفتى الذي يبلغ ستة عشر عاماً.. ومن ثم بدأت تتدفق.
بين المرأة والوطن
لطالما ارتبطت صورة المرأة بالوطن عند نزار، وتحدث المتحدثون عن هذا الأمر، وردوه إلى أسباب عديدة، لكن أخاه يربط بين الوطن وهو دمشق، والمرأة وهي الحب، ويستشهد بقول لنزار (فهل المرأة شيء آخر غير الوطن؟) نزار هو صاحب مقولة من لا حبيبة له لا وطن له، وهذه الشهادة في ترجمته وشعره، تظهر بأن حالة من التوحد ربطت بين دمشق والأم والصديقة والحبيبة، لتكون المرأة رمزاً للتحرر الوطني، بتحررها تتحرر الأوطان وبرمزيتها يتمثل الوطن.
«كانت دمشق عنواناً لكل مدينة عربية انطلق صوته فيها أو ترنمت بقصائده، ورمزاً لكل حبيبة عشقها، وهكذا أصبح عنده الوطن والحبيبة والصديقة والأم شيئاً واحداً:
كلما غنيت باسم امرأة
أسقطوا قوميتي عني وقالوا:
كيف لا تكتب شعراً للوطن؟
فهل المرأة شيء آخر غير الوطن؟
الأم ودهشتها
ومن الأم التي تمثل الوطن عند نزار ينتقل صباح قباني ليقدم المسوّغ الحقيقي لارتباط الوطن بالمرأة عند نزار، إذ لولاها لما كان الشاعر والشعر، البيئة ترفض وترى الشاعر دون سواه، ومع ذلك فإن الوالد يتحدث بفخر، ولكن صباح يذكر ما لا يعرفه القراء، فالجميع يرد نزاراً وشعره والنشر إلى البحبوحة والمكانة الاجتماعية والتجارية، لكن الكاتب يميط اللثام عن دور المرأة الأم، فهي التي توسمت في ابنها الشاعرية تبيع أساورها الذهبية إكراماً للشعر، وتمنح ابنها الشاعر ما يجعله قادراً على نشر شعره، ولا تزال في خاطرها ذكريات العم (أبو خليل القباني) فكان الميلاد الشعري 1944 من إسوارة وطن وأم وامرأة.
«أدركت أمي بحسّها الفطري موهبة نزار، وأنه جاء ليكمل مشوار جده الذي حاربه السلفيون وسلطوا عليه صبية الأزقة فاضطروه للهجرة إلى مصر، ولما كانت أمي قد شهدت وهي طفلة النهاية المحزنة التي انتهى إليها فن (أبو خليل) في دمشق بادرت إلى إهداء ابنها الطالب اليافع (نزار) الذي لم يملك سوى مصروفه اليومي، واحدة من أساورها الذهبية كي تمكنه من دفع تكلفة طبع ديوانه الأول (قالت لي السمراء) الذي كرّسه، فور صدوره عام 1944 شاعراً واعداً وفاتحاً طريقاً جديدة في الشعر العربي الحديث».
الأثر الأسري
الأخ الأكبر والمنال هو ما مثله نزار لأخيه، وعلى الأغلب يقوم هذا التأثير على إلغاء واحد لمصلحة الآخر، وربما حاول واحدهم أن ينكر أثر السابق له، ولكن صباح وبحب الأخ، وبتفوق المبدع في ميدانه تحدث بأريحية بأنه كان يرقب الأخ المبدع ويتابعه في كل خطوة.
يرسم فأرسم
يعزف فأعزف
يدرس الحقوق فأدرسها
يصبح دبلوماسياً فأصبح
«كنت أرى فيه رائداً لي في كل التجارب الفنية التي مارسها: يرسم فأرسم معه، يعزف الموسيقا فأدندن معه، انتسب إلى كلية الحقوق فالتحقت بها، ودخل عالم الدبلوماسية فما لبثت، بعد فترة تسلمت فيها مسؤوليات إعلامية وثقافية متنوعة، أن لحقت به إلى الخارجية».
فالأخ يترسم خطوات الأخ، ويمشي على خطاه، ولكنه بصدق العارف يقول: وعندما وصل الأمر إلى الشعر توقفت عن مجاراته لأنه لا يجارى، هنا عرف قدر ذاته، وعرف قدر أخيه الشاعر، فاكتفى بالفن وعشقه، والإعلام ودوره، وأسهم إسهامات لا تنسى في الفن والثقافة والإعلام والدبلوماسية، وخاصة أن نزاراً غادر الدبلوماسية إلى غير رجعة، وهذا يدفعنا لمعرفة أثر الأسرة في تكوين أفرادها.
مجاهل فن نزار
عندما نشرت دواوين نزار مفرقة من «قالت لي السمراء» إلى «أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء» كانت حظوظها مختلفة، ورسومها خاصة، وديوانه «قصائد متوحشة» جاء مكتوباً بخطه هو من دون الاستعانة بخطاط وصباح قباني يكشف وَله نزار بالفن.
«كان غالباً ما يرسم أغلفة دواوينه ويكتب خطوطها بنفسه، وفن الخط تعلمه عند واحد من أكبر الخطاطين السوريين هو بدوي الديراني، أما الموسيقا فقد قال لي الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ذات يوم: إن القصيدة التي تأتيني من نزار لا تحتاج إلى كبير جهد في التلحين، فموسيقاها تأتي معها».
فالخط المنمنم والخطوط الجميلة لنزار لم تأت عبثاً، فهو تعلم الخط على يدي أكبر خطاطي سورية وبلاد الشام عبر الأزمان «بدوي الديراني» وهو صاحب الروائع التي وصلت إلى أصقاع الدنيا والى الكعبة المشرفة، وهذا ما جعل خطه بديعاً وجميلاً، وإن كان نزار قد جنح إلى الخط الفني الذي لا يعبر عن مدرسة فنية في الخط.. وكذلك رسومه بيده، فكما أشار سابقاً كان نزار يرسم، وأخوه يتبعه، أما وَلهه بالموسيقا فقد جعل شعره ممشوقاً ملحناً، ويذكر على ذلك شهادة الموسيقار محمد عبد الوهاب، وقد قال ذلك كاظم الساهر في مرحلة متأخرة، وكل قارئ لشعر نزار يجده ملحناً وجاهزاً بسبب اختياراته للأبحر الشعرية وكلماته.. وهذا عنصر مهم من عناصر تفوقه، فهل عرف القارئ أن نزاراً جلس بين يدي بدوي الديراني ليتعلم الخط والحرف العربي وجمالياته؟
دمشق والصورة الكاملة
يذكر ياقوت الحموي بأن دمشق وغوطتها إحدى عجائب الدنيا، ومثلت دمشق علامة من علامات الجمال والتاريخ، ولكنها عند نزار قباني مختلفة، فهي في حلّه وترحاله، وهي في سكناها والاغتراب عنها، وفي قسوتها وحبها تعد عنده سيدة البلدات جمالاً وتاريخاً وحباً وعشقاً، وينقل صباح قباني مقطعاً يوجز كل ما يراه نزار في دمشق من حيث مكونات الجمال والرمز والفكر والقومية، هذه المكونات التي لا تحملها مدينة أخرى في عرف نزار، ولا يختلف معه جمهرة الناس، لأن دمشق تمثل الكثير للعربي، وهذا ما نلمحه عند كل الشعراء من شوقي «وعز الشرق أوله دمشق». إلى بدوي الجبل «ويا رب عزٌّ من أمية لا انطوى».
«دمشق ليست صورة منقولة عن الجنة بل إنها الجنة، وليست سيفاً أموياً على جدار العروبة بل هي العروبة، إن هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ هو أجمل بيت امتلكته على تراب الجنة.
فالسكنى في الجنة والسكنى في دمشق شيء واحد:
الأولى تجري من تحتها الأنهار
والثانية تجري من تحتها القصائد والأشعار
إن الرسم الجميل يرسمه رسامون دمشقيون
والورد الدمشقي يزرعه مزارعون دمشقيون
والقومية العربية.. تصنعها السيوف الدمشقية.
إنها دمشق السكن التي تتطابق مع الجنة عند الشاعر وبدل الأنهار القصائد والأشعار، وفيها الرسم، وفيها الروائح والورد، وفيها السيوف الدمشقية التي يفاخر بها نزار ولابد له عند كل وصف عظيم من استخدامه.. إنها عناصر الجمال والجنان والقوة، إنها معقل العروبة والقومية، إنها محطة الخاتمة.
وأخيراً
لا تختلف مسيرة نزار الحياتية والدمشقية كثيراً من مكان لآخر، لكنها هنا بقلم أخيه الأصغر الذي ترسّم خطاه في كثير من مفاصل حياته، يقدم فيها أسرار المجتمع ونظراته للشاعر والشاعرية، وبدايات الشاعر وتدرج موهبته وملكاته حتى صار يباهي باسم أخيه كما يباهي كل عربي بالاسم.
سيرياهوم نيوز1-الوطن