| فراس عزيز ديب
الأحد, 30-05-2021
إذن، أعاد الشعب السوري تعريف مفهوم الثورة عندما خرج عن بكرة أبيه لينجز الاستحقاق الرئاسي، هكذا رأى الرئيس بشار الأسد ردة الفعل الشعبية على الانتخابات، رآها بعين الثائر الذي يعي تماماً ماذا تعني الثورة، رآها بعين المؤتمن بحق على تطلعات الثوار فكيف وهو وصفهم في مطلع كلمته: «إخوتي بالولاء والانتماء»، ليس هناك أقدس من الولاء للوطن، وليس هناك أجمل من الانتماء لقضاياه.
منذ انطلاق «الربيع العربي» كفرنا جميعاً بمصطلحات الحرية والديمقراطية وحتى الثورة، اليوم نبدو أمام مفهوم جديد من هذه الثورات، لأن ما فعله الشعب السوري من صمود خلال السنوات العشر السابقة بكفة، وما فعله في الأسبوعين الماضيين في كفة ثانية، ما فعله فعلياً يستحق الكثير من الدراسة والبحث بعيداً عن اللغة الأكاديمية، دعوا هذه اللغة الرتيبة والمملة لقاعات الجامعات وابحثوا في المشاهد والصور التي تراكمت حتى تنجز هذه الثورة، عندها فقط نستطيع أن نجيب عن السؤال الجوهري: ما الرسائل التي حققها السوريون بإنجاز هذا الاستحقاق؟
أولاً: التمرد على الديكتاتورية
تقول الحكمة: «عندما تكون الديكتاتورية أمراً واقعاً تصبح الثورة حقاً من الحقوق».
الديكتاتورية ليست مصطلحاً جامداً نختصره بتوصيف حاكم أو نظام حكم، الديكتاتورية قد تتجلى في العادات والتقاليد، حتى لفافة التبغ التي لا يستطيع البعض تجاهلها تمارس على المدمن ديكتاتورية الإدمان. أما في الممارسة فإن للديكتاتورية قواعد ولعل أقذرها على الإطلاق هي الديكتاتورية الممارسة على قاعدة انعدام الأخلاق، ويا للأسف هي الديكتاتورية التي تحكم هذا العالم المجنون.
عندما يتحول قطاع الطرق إلى ثوار وعندما يصبح أحرار جز الأعناق والتفجير بالأبرياء طلاب حرية، هنا نبدو أمام ديكتاتورية غسيل العقول، عندما يصبح احتلال مناطق بلد آخر بداعي حماية الثروات لدعم من يريدون الانفصال عنه جزءاً من ثوابت دول تدّعي حماية القانون الدولي فإننا نبدو هنا أمام ديكتاتورية العقل المجرم.
لم نكن نحن المؤمنين ببلدنا، ولم يكن من يحبنا من أصدقاء وحلفاء من يتحدث عن أن كل العقوبات التي طالت الشعب السوري، ويسمونها زوراً عقوبات ضد النظام، هي عقوبات بهدف ضرب البيئة الحاضنة للدولة السورية، بل إن عدو الشعب السوري ذات نفسه هو من كان يتحدث عن ذلك، أرادوا جعل الحاجات الأساسية حلماً مع ازدياد الضخ الإعلامي لحرف البوصلة عن السبب الحقيقي لمآسي الشعب السوري.
فكرة ضرب الحاضنة الشعبية للدولة السورية كانت معركة استباقية أرادها العدو لأنه كان يعلم بأنها آخر سلاح يمنع عنه كوابيس طوابير السفارات والمراكز الانتخابية، يومها كما وصفهم الرئيس بشار الأسد كانوا يعيشون مرحلة «الثبات الإرادي» لأنهم كانوا مخدّرين بأحلام اليقظة المبنية على فرضية «أيام النظام معدودة».
هنا كان رد الشعب السوري واضحاً، بوصلتنا واضحة وسبب مأساتنا واضح، لأن العدو واضح.
مشكلة من يفكر في خراب سورية بأنه يتجاهل فرضية أن الشعب لا يمتلك ذاكرة السمك، الشعب الذي كان قبل عشر سنوات يعيش بحبوحة اقتصادية واجتماعية يحسده عليها القاصي والداني، يعلم تماماً بأن ثورته لن تكون على «النظام» الذي كان أساساً يتيح له كل ذلك، ثورته على من منع الدولة السورية من إكمال المسار التصاعدي اجتماعياً واقتصادياً.
عندما تريد أن تمارس بحق هذا الشعب ديكتاتورية العقل المجرم عبر اختصاره بثلة إمعات من شذاذ الآفاق، فعليك أن تتوقع ثورته عليك في أي وقت لكنها ثورة ليست كما كل الثورات، هي الثورة التي «تحمي عدوك» في الوقت الذي كنت فيه تنتظر سقوطه، هذه الثورة قطعٌ نادر أو ماركة مسجلة باسم الشعب السوري لأنها لا تتحقق إلا عندما يكون الشعب والقيادة بذات الخط.
ثانياً: إعادة تعريف الوطنية
في الحالة السورية غالباً ما يكون السؤال: هل هي خيارات دولة أم إنها ثوابت شعب؟
عندما نتحدث عن علو خيارات الدولة على ثوابت الشعب يبدو المثال المصري أمامنا، تمسك رسمي باتفاق العار مع الكيان الصهيوني، يقابله رفض شعبي جارف لهذا التطبيع، هنا يبدو الشعب لا حول له ولا قوة. في سورية دائماً ما يكون هناك تضاد في التعابير على قاعدة:
هل الرئيس بشار الأسد يأخذ السوريين إلى المواجهة مع العدو كما يروّج إمعات المعارضة السورية أم إن الشعب السوري يجد في هذا الرئيس المدافع عن كرامتهم أمام غطرسة هذا العدو؟ هل الرئيس بشار الأسد على خلاف «إيديولوجي» لا أكثر مع عصابة الإخوان المجرمين ويزج بالشعب كله كواجهة لهذا الخلاف، أم إن الرئيس يدافع عن خيارات الشعب الذي عانى ما عاناه من تلك العصابة المجرمة قتلاً وإجراماً وتكفيراً؟
للإجابة عن هذا التساؤلات دعونا نستعيد صور اليوم الانتخابي في سورية وخارجها، فعندما نشاهد أن طوابير التصويت تصدرها أهالي الشهداء، الجرحى والمقعدون، عندما نشاهد في طوابير التصويت مسنين لعلهم خاضوا في سورية ما خاضوه من حروب وأزمات منذ نكبة 1948، عندها ندرك بأن الشعب السوري عبر هذه الانتخابات أعاد تعريف مفهوم الوطنية التي هي في الأساس الانتماء لقضايا الوطن، هنا تبدو الرسالة واضحة:
ليست خيارات الرئيس، هي خيارات الشعب التي يدافع عنها الرئيس، الشعب السوري لا يدفع ثمن خيارات قيادته في الذهاب نحو مواجهة مع الإرهاب أو داعميه، هو ببساطة أعاد تفويض هذا الرئيس بأنه جاهز لأي ثمن عندما تكون المعركة معركة كرامة. هو تناغم واضح بين خيارات الشعب والمرشح المدعوم من قبله، وبالوقت نفسه رسالة لكل من يمارس «ديكتاتورية الإجرام»:
مشكلتكم مع هذا الشعب لا مع شخص.
ثالثاً: ديمقراطيتنا.. رسالة محبة وسلام
بدت تلك المشاهد القادمة من كل المحافظات السورية مدعاة للفخر بسبب الصورة الراقية والرسالة الحضارية التي أراد السوريون إرسالها، لم يخرج هؤلاء الثوار ليهددوا من لا ينتخب مرشحهم بالويل والثبور، لم يرفعوا العصي والسكاكين لترهيب كل من يخالفهم الرأي، لم ينقسموا كفرحين في «حرملك» و«زلملك» لأنها يجب أن تكون ثورة بما يرضي الله، بل جعل هؤلاء اللـه في قلوبهم والوطن في عقولهم فخرجوا هاتفين باسمهم، لم يتوعدوا ناخبي هذا المرشح بالترحيل ولا حتى بالتصفية، الجميع كان يدخل ليدلي بصوته ويخرج من دون أن يسأله أحد لمن أدليت بصوتك، الأهم أنك أدليت بصوتك، حتى تلك الروايات الهوليودية التي كان يتلطى خلفها أعداء الوطن من قبيل تزوير الانتخابات والإكراه على التصويت باتت مسوغات عقيمة أمام جمال ووضوح ما رأيناه.
هنا دعونا ببساطة نضع جانباً الرقم النهائي الذي حصل عليه المرشح الفائز وندقق بالأرقام التي حصل عليها منافساه، كل صوت من تلك الأصوات هو الآخر رسالة محبة أرسلها مواطن سوري وجد أن هذا المرشح هو من يلبي طموحه، هذه الأصوات ببساطة يجب أن تلقى منا كل الحب والاحترام، لأنها عملياً عرفت الطريق الحقيقي نحو التغيير، عرفت أن الدستور مبني على فكرة أنه السقف الذي نستظل به جميعاً ولا يحق لأي أحد أن يتجاوزه، هؤلاء عبروا عن رأيهم من قلب سورية، هنا تبدو رسالة هذا الشعب واضحة: لكم ديمقراطيتكم ولنا ديمقراطيتنا، رسالة بسيطة لكنها عميقة أراد هذا الشعب أن يثبت للعالم أجمع أنه لا يخشى اللعبة الديمقراطية عندما تكون المباراة بين طرفين سوريين، لكنه سيقف في وجهها عندما يريدها البعض مباراة متعددة الأطراف ضد طرف سوري، ببساطة هو يرفض وصفاتكم الجاهزة التي لا تناسب مجتمعنا لأن هذه الوصفة ما هي إلا دواء مخدر هدفه إتلاف الأعصاب، لا معالجة الألم.
في الخلاصة بدأ الشعب العربي السوري ثورته الحقيقية بالاتجاه الصحيح، حدّد خياراته وأولوياته والأهم جدّد الثقة بربان سفينته، لا يبدو أن ما بدأه سوف ينتهي حتى يحقق كل مطالبه، عندها فقط ستفهمون ماذا يعني أن تصبر على الألم حتى تصل إلى مكان تجبر فيه عدوك على الانتقال إلى مرحلة «التفكير القسري»، ما أجملنا كسوريين عندما يصبح صمودنا قسراً لأحلام الآخرين!
(سيرياهوم نيوز-الوطن)