ثمة اليوم من يتحدث عن «الفيلم الشعري»، وهو الشكل الإبداعي الذي يُمازج بين الصورة المرئية والنص المكتوب، والذي يأتي أقرب إلى فنون التجهيز، أو التركيب في الفنون التشكيلية، حتى إن البعض يصنفه ضمن فنون «الفيديو آرت» وتقام لهذه الغاية المهرجانات الخاصة بالاحتفاء به.
التشابك بين النصوص
أذكر هذا الشكل الإبداعي للحديث عما صار يُعرف بالكتابة عبر النوعية، هذه الكتابة التي تُعطي نموذجاً لهذا التشابك بين الأنواع الإبداعية، والذي يصل أحياناً حد الالتباس.
ورغم أنّ الدعوة للكتابة عبر النوعية قديمة بعض الشيء تنشط في أزمنة وتخبو في أخرى، مع ذلك لا يزال الكثير يرى أنّ ثمة مشروعية في استمرارها في ظل انقراض واندثار بعض الأنواع في الكتابة مثل: المقامات، الوصايا، أدب المراسلات، وأدب الرحلات على سبيل المثال..
وفي ظل ازدهار تداخل الأجناس والأنواع، بحيث يستحيل للنوع الواحد أن يقوم بالمهمة الإبداعية بمفرده، من دون الاتكاء على الأنواع الأخرى، فهذا الشاعر المصري أحمد الشهاوي يكتب أنّ التجنيس ليس إلا تصنيفاً بحتاً، وعلينا أن نعوّل على النص، لأنه الأبقى والأكثر خصوبة بحكم عدم نقائه وصفائه على المستوى النوعي، وطالما آمن بالسياق لا بالأنساق…
هل انتهى زمن النوع؟
عندما سألت بعض الكتاب السوريين، يكتبون أجناساً إبداعية مختلفة، هل حان زمن التخلص من «الجنس» الأدبي لمصلحة النص فحسب؟! كان لدى أغلبيتهم ريبة من هذا القفز- على حدِّ وصفهم- فوق الحواجز والحدود بهذه الطريقة، التي وجد فيها البعض خطورة تصل حد التهوّر، ومن ثمّ فهي دعوة غير مجدية..
لكن إذا ما وضعنا تخوّف الكتّاب جانباً، وألقينا نظرة على حركة التطور التاريخية لمسيرة الأنواع، والأجناس الإبداعية على تلوّنها، وتنوّعها، سنجد أنه في منعطفات كثيرة، كان ثمة التهام لبعض الأجناس الإبداعية لبعضها الآخر، أو افتراسها.. وأحياناً انزياح، وتماهي كامل الجنس الإبداعي في أجناس أخرى يصل حد الانقرض.. فقد قسّم «ك فانسان» الأدب في أول نشوئه إلى شعر ونثر، الشعر بدوره قسمّه حسب اتجاهاته إلى أربعة أشكال: الملحمي، الغنائي، المسرحي، والتعليمي، فيما أجناس النثر كانت: الخطابي، التاريخي، الروائي، التعليمي، والرسائل.. هذه الأنواع يعرّفها بأنها أشكال عامة وفنية للفكر، لها مميزاتها وقوانينها الخاصة، وهي تؤلف زُمراً تندرجُ ضمنها أعمال النفس الإنسانية الشديدة التعقيد والتنوّع. فيما يُعرّف تطورها بأنه سلسلة الأشكال التي يتخذها جنسٌ أدبي كالملحمة أو المسرحية تحت تأثير العبقرية الأدبية أو الحضارات المختلفة، وتأتي مهمة المذهب التطوري أن يصل بين هذه التغيرات، وبين كيفية ولادة بعضها، ويُجمل تطور الأدب في ثلاثة مناحِ: تطور كلّ نوع على حدة، ونظام التعاقب والتولد فيما بينها، وتغيّر الأشكال في الأنواع، حيث يموت نوع ليولد نوع، أو أنواع أخرى.
انقراض بعض الأنواع
ولو نظرنا بين الأنواع الأولى للأدب على سبيل المثال، وبين واقع الأنواع الأدبية اليوم، سنجد أنّ جميع تلك الأنواع قد اختفت اليوم، وإن بقي نوع فهو في تحوّل إلى أشكالٍ جديدة، وإذا ما قارنّا بين هذا النوع في بداياته، وبين شكله الجديد نصيرُ كأننا أمام نوع آخر تماماً ولا علاقة له بشكله الذي نشأ منه..
منذ أن أنس شيوخ التصوف على استخدام «الكتاب» اسماً وصيغة تسبق مصنفاتهم وتأليفهم، التي امتازت بالتّنوع والتجريب، لا يزال الهاجس دائماً لتغييب «نوع» الجنس الإبداعي لدى الكتّاب عن غلاف ما يصدرونه من كتب للوصول لما صار يسمى اليوم «الكتابة عبر النوعية» ألم يفعلها أدونيس في «الكتاب» كما وسم أحد إصداراته ذات حين..؟!
النص وروح العصر
فالنص يمكن أن نقرأه بروح العصر- كما يرى أدونيس- بعكس الحركات المضادة الأخرى التي ترى أنّ يستوعب سلفاً كلَّ شيء، وفيه الأجوبة على كلِّ الأسئلة، فالنص هو قراءته وقراءتك للنص هي النص..!! ألم تضيق القصيدة بما عند الشاعر ليعبّر من خلالها، ومن ثمّ تذهب «الشعرية» في أجناس أدبية أخرى غير القصيدة؟!
واليوم ثمة أنواع إبداعية تلوحُ في الأفق، البعض منها يرسم ملامحه بكل توءدة وروية، والبعض الآخر يستعجل قليلاً.. منها هذا النوع الذي بدأت ملامحه تبدو اليوم جلية، ذلك النص الذي يستعير “الحكائية” من القصة القصيرة التي تتلاشى وتتضمحل بين “براثن” الكثير من كُتّاب القصة القصيرة جداً، كما إنه يستعير من القصيدة معظم جمالياتها الشعرية، وصولاً إلى (الأقصودة) المُصطلح الذي كنت الأسبق في إطلاقه منذ بداية تجلياته سنة 2010، والذي أمسى النص الأكثر ما يكتبه اليوم شعراء وقاصون، مرة تحت مُسمى قصة قصيرة جداً، ومرةً تحت مُسمى ومضة شعرية، وللحديث أكثر من بقية.