فراس عزيز ديب
لم تكن بداية العام الجديد تختلف عن نهايتهِ إلا في لعبةِ الأرقام، ابتداءً من التاريخ وانتهاء بعدَّادِ الخراب صعوداً أو هبوطاً الذي بقي في أيدي تُجار الدم والسياسة، ورثته السنة الجديدة عن القديمة، فانخفاض عدد الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة يرجع بالأساس إلى عدم وجود أهداف جديدة بعد أن دمرت آلة الإجرام الصهيو- أميركية أكثر من خمسة وستين بالمئة من الوحداتِ السكنية الصالحة للسكن والمنشآت الحيوية التي تُعنى بخدمة المواطن الفلسطيني، أما انخفاض عدد الشهداء فيرجع إلى نزوحِ أغلبية السكان نحو مناطق محددة باتت مكتظة بالقدر الذي تمنع عنهم القصف، لكنها بالوقت ذاته تمنع عنهم أي نوعٍ من مقومات الحياة الأساسية، هذا الانخفاض في رتم العمليات الإجرامية جعل الكيان يوسع نطاق نشاطاتهِ خارج الحدود السياسية لفلسطين المحتلة متسلحاً بالضوء الأخضر الدولي عموماً والأميركي خصوصاً، مستنداً إلى العقيدة الإجرامية التي نشأت عليها دولة الاحتلال.
فكانت الوجهة هي الجبهة الأكثر تعقيداً المتمثلة بجنوب لبنان إن كان بتصاعد استهداف المناطق المدنية كما حدث في القرى الحدودية وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت عبر اغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري، هذهِ الاغتيالات المتنقلة التي لا يبدو بأنها ستتوقف وإن كانت تتم بطريقةٍ أقل ما يُقال عنها إنها لعب بالنار، في سياق كذبة التوافقات الدولية على منع اتساع رقعة الحرب، لكنها أشبه بسعي الكيان لعدم إضاعة الفرصة التي لن تتكرر بمعزلٍ عن التهديدات التي تلقاها العدو بحتمية الرد، لكنهُ من الواضح بأنه يتعاطى معها من مبدأ الابتزاز على النحو التالي: إن القيام بالرد المباشر والصريح على اغتيال قيادي فلسطيني يعني أن المقاومة في لبنان أقحمَت نفسها مباشرةً في الصراع وهي من تجاوزت الحدود المرسومة للمواجهة لكون الاستهداف لم يكن لأحدِ قادة حزب الله، وإن لم يتم الرد على الأقل كما جرى بعد اغتيال عدد من كوادر الحزب بينهم نجل رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، فإن الكيان يبدو وقد سجَّلَ نقاطاً إضافية ليخرج بمظهر الضحية وهو الدور الذي يجيده، بمعنى آخر: كان قادة الكيان ولا يزالون يروجون على أن ما جرى في أحداث السابع من تشرين الأول محارق نازية جديدة لابد من الاستفادة منها إلى أبعدِ حد، تماماً كما شكَّلت أحداث المحارق النازية ذريعة لتمدد الكيان في العمق العربي وكأن العرب هم من ارتكبَ تلك المحارق، تكتيك يوحي إلى حدّ بعيد بأن القادم في الأشهر القادمة لن يقلَّ جنوناً أو إجراماً عما عاشتهُ المنطقة في الأشهر الماضية، مع التأكيد هنا أن الرقعة مرشحة للاتساع أكثر بكثيرٍ مما يرى البعض، تحديداً أولئك الذين يتحدثون عن خلاف أميركي ـ إسرائيلي يستوجب ضغوطات أميركية على الكيان لوقف العدوان، هل حقاً مازال هناك من يصدق أخباراً كهذه؟ بما فيها التقارير التي تتحدث عن اتساع شعبية المتطرف إيتمار بن غفير والخوف الأميركي من ذلك، وكأن من يروج لهذهِ الفكرة يريد إقناعنا بأن بنيامين نتنياهو يقل تطرفاً وإجراماً عن بن غفير، مع ذلك فإن الولايات المتحدة أعطته الضوء الأخضر لارتكاب كل ما يمكن ارتكابه من جرائم، لكن الحال الأميركي لا يبدو هو حال كل الداعمين للكيان، فإطالة زمن الحرب شكَّل ضغطاً على الكثير من الدول الفاعلة وأهمها فرنسا التي كانت ولا تزال تعيش حالة من العزلة على مستوى السياسة الدولية تشبه إلى حدٍّ بعيد عزلتها عندما رفض الرئيس الراحل جاك شيراك التورط في غزو العراق، لكن ما هي حيثيات هذه الضغوط وإلى أي حد تبدو السياسة الفرنسية قادرة على استنهاض موقف فرنسي يتماشى مع القيم التي تتحدث عنها وأهمها القانون الدولي الذي كانت فرنسا أحد الأطراف الفاعلة بصياغته وإنشاء مؤسساتهِ منذ سقوط النازية وحكومة فيشي عام 1944!
مبدئياً دعونا نتفق بأن هناك خلافاً إسرائيلياً- فرنسياً لم يعد لكلا الطرفين القدرة على حجبهِ، هذا الخلاف يمكننا استقراؤه من خلالِ التصريحات المتكررة للمسؤولين الفرنسيين وعلى رأسهم الرئيس إيمانويل ماكرون والتي تطالب الكيان باحترام المواثيق الدولية بحماية المدنيين والمنشآت المدنية عند استخدام حق الدفاع عن النفس، والتي قابلها تجاهل إسرائيلي لكل التصريحات والمبادرات الفرنسية، لدرجة أن ماكرون نفسه قال قبل زيارتهِ الداعمة للكيان بأن الزيارة لا يجب أن تتم ما لم يكن هناك ضمانات بإيجاد حل ما يضمن إعلان هدنة إنسانية لكن ما الذي جرى بعد ذلك؟ زارَ الكيان من دون ضمانات وغادر من دون نتائج!
لكن هناك من يقول إن هذه التصريحات لا ترتقي إلى مستوى خلاف هي على شاكلة التصريحات الأميركية التي توحي بأن هناك خلافات لا أكثر، من حيث الشكل تبدو هذه المقاربة منطقية لكن من حيث المضمون فإن التصريحات الفرنسية تجاوزت فكرة التصريح الشكلي بما فيها فكرة الرد على التصريحات الإسرائيلية التي لا يفعلها عادةً من يبدو مضطراً للرد، فمثلاً قبل أمس ردت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا على التصريحات الإسرائيلية التي تتحدث عن تهجير الفلسطينيين إلى دولة ثالثة أو منع عودتهم إلى قطاع غزة حسب ما طالبَ وزير مالية الكيان بتسائيل سيموريتش، وقالت كولونا: إن «إسرائيل لا يحق لها الحديث عن مستقبل الفلسطينيين ولا مستقبل الضفة والقطاع لأنها ببساطة أراضٍ فلسطينية يتم تحديد وضعها وفق القانون الدولي»، هذا الرد عملياً لا يبدو بأنه سيمر مرور الكرام في سياق العلاقة بين فرنسا والكيان الصهيوني لكن يبقى السؤال الأهم: هل هذه التصريحات هي تحول في الموقف الفرنسي أم مجرد تدوير للزوايا؟
هناك من يرى بأن المواقف الفرنسية الأخيرة قد تكون نتيجة للضغط الشعبي الذي حدث في الشارع، هنا يؤسفنا القول إن من يتحدث عن أثر الضغط الشعبي على الحكومة الفرنسية هو لا يعرف من فرنسا إلا برج إيفل، مبدئياً مصطلح الضغط الشعبي بالأساس يبدو مصطلحاً للمزاودة الإعلامية لا أكثر، عن أي ضغط شعبي نتحدث والتظاهرات التي خرجت في أي ولاية أميركية أكبر بكثير من تلك التي شهدتها المدن الفرنسية؟ ثم لماذا نتجاهل مرجعية الأغلبية العظمى من الذين خرجوا بهذه التظاهرات والتي شكل العرب والمهاجرون أغلبيتها، هذا ببساطة استمرار لحالة الحياد أو اللامبالاة التي يتعاطى معها الشارع الأوروبي عامة والفرنسي بشكل خاص مع هكذا نوعية من الأحداث، إن من يتحدث ويحاول إقناعنا بأن هناك ضغطاً شعبياً أنتجته عملية طوفان الأقصى على الحكومة الفرنسية دفعها لتبني مواقف كهذه، عليه أن يشرح لنا أين كانت هذه الحكومة من الضغط الشعبي الذي مثلتهُ الاحتجاجات ضد قانون التقاعد أو احتجاجات السترات الصفراء وغيرها من الأحداث، إذن لا تبدل في الموقف ولكن هناك شعور بأن قطار المكانة السياسية بدأت تنفد مقاعده فكيف ذلك؟
كانت فرنسا ولا تزال تقدم نفسها كوسيط موثوق بين لبنان الرسمي والكيان الصهيوني، لكن الكيان يعرف تماماً أن حربهُ ليست مع كل لبنان على هذا الأساس لا تزال إسرائيل ترى بالطرف الفرنسي الأجدر بقيادة الوساطة لكنها بالوقت ذاته لا تستثني قاعدة الفشل، أما الجانب الفرنسي فيرى بأن لبنان آخر المساحات التي يتحرك بها من منطلق القدرة على التأثير في بعض الأطراف الفاعلة، وخسارة لبنان ستعني تحول فرنسا إلى ألمانيا جديدة كدولة لا تملك أي نفوذٍ سياسي أو عسكري خارج الحدود الرسمية، من هنا تبدو المواقف الفرنسية المتشددة ظاهرها التصويب على الحرب في غزة وباطنها منع الحرب على لبنان، لكن منذ متى والجانب الإسرائيلي يقيم وزناً لفرنسا؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال من المفيد القول إنه من المغالطات التي كنا ولا نزال نقع بها، بأننا نرى مسار الأحداث في هذا الشرق من مناظير طوباوية، فهذا يراها من منظار القانون الدولي، لكن القانون الدولي سقط منذ قرر الأميركي الخروج بالحرب على الإرهاب واحتل العراق وأفغانستان وسمينا من ساعدوهُ على ذلك بالمقاومين، وهناك من يراها حسب الأساطير الدينية وتجاهل أن لكل أسطورة دينية أسطورة مقابلة من مبدأ لكلِّ فعل رد فعل يوازيهِ في القوة وهنا مربط الفرس، دعكم من الأساطير الدينية واتركوا قوانين الفيزياء وكل القوانين الإنسانية، إن لم تظهر القوة فإن الكيان لن يتوقف وهي الرسالة التي فهمها جيداً من أدركَ متأخراً أنه أصبح خارج سياق اللعبة الدولية فهل تنجح المساعي الفرنسية، حَكَماً لـ«الحل والربط» هناك.. حيث يقبع الزهايمر الأميركي!
كاتب سوري مقيم في باريس
سيرياهوم نيوز1-الوطن