| قاسم بن علي الوزير
” ليس منا من دعا إلى عصبية”.. حتى ولو كانت دينية! بل، ربما كانت العصبية الدينية هي أخطر أنواع العصبيات على الإطلاق، لأنها العصبية التي يدفع بها الغلو إلى الاجتراء على حقوق الله سبحانه والمزايدة على رسله أنفسهم قبل الاجتراء على حقوق البشر والافتئات على بني الإنسان.
إن العصبية بطبيعتها تلغي المنطق، وتعطل العقل، وتشل الضمير، إنها تعبير عن الهوى. والهوى – كما هو معلوم – مُضل، يطفىء نور العقل، ويلغي دور البرهان، ويخرس صوت الضمير، وهذه هي قوام الدين الحق وسبيل اعتناقه، وآية الالتزام به كذلك، فالعصبية لا تقبل القيم الأخلاقية، ولا تتعايش معها، وجماع الرسالة الدينية – كما هو معلوم أيضاً – أخلاقي قبل أن يكون تشريعياً على ذلك الأساس.
معنى ذلك كله أن طبيعة العصبية مناقضة لطبيعة الدين أصلاً. ومن ثم فهي داخلة على مائدته النقية بضروب قاتلة من السموم التي يضار بها الدين نفسه قبل أي شيء سواه!
إن دين الله هو رحمة بعباده تسعى بينهم، وتضع عنهم إصرهم والأغلال. وهو لطف بهم يهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور. فكل دين أنزله الله سبحانه فمن أجل الإنسان الذي جعل منه شعوباً وقبائل ليتعارفوا، (بمعنى التعارف والتعامل بالمعروف)، لا ليقتل بعضهم بعضاً، أو يجور بعضهم على بعض باسم الدين، أو بأية تعلة من تعلات الفكر، أو خديعة من خدع الأهواء، أو دعوى من دعاوى المستحلين من حرمة الإنسان وكرامته وحقوقه ما حرمه خالقه الذي خلقه وأراده حراً مكرماً مسؤولاً.
إن الإنسان معمار الله عز وجل فلا يحل لأحد ولا يحق له أن يهدم منه شيئاً أو ينتقص من حقوقه، لأن ذلك إنما هو عدوان على بانيه وخالقه. ومن الحق أن العصبية الدينية لا تعمل أقل من هذا. إنها تبدأ بادعاء احتكار الفهم لرسالة الله، وتنتهي بانتزاع حق الله سبحانه في حساب عباده، على أساس من فهم محدود وهوى متبع يصادر كل فهم آخر أو تفسير مختلف لمقاصد الرسالة الإلهية.
من هنا تنطلق الفتنة. لأن ذلك يثير الفرقة بما تحمله من تناحر، ويعصف بقيم الأخوة القائمة على حقوق المساواة في استخدام الملكات الإنسانية في الفهم بما تباشر من تمييز لا يسمح لغير فهم واحد يبدد بريحه قيم الحرية والمساواة والتسامح ويعطل قوى العقل والاجتهاد. وبذلك كله يسفل الإنسان إلى مستوى الغريزة ليغرق في الشقاق والخصومة، ذلك لأن “الخصومة تنبعث من التعصب” والتعصب نظرة جانبية، والنظرة الجانبية التي يستغرقها جانب واحد تعمى عن إدراك الجوانب الأخرى، كما يقول الشيخ الإمام محمد أبو زهرة.
ولذلك – لذلك بالضبط – يقودها العمى إلى الحرب على هذه الجوانب التي لا تدركها، لأن العصبية كما يقول بحق: “ضيق في الأفق ونظر يتحيز ولا يحيط ولا يتميز” (محمد أبو زهرة : الإمام الصادق).
وإنه ليكفينا – رحمه الله – مؤونة الإطالة في وضع العصبية في موضعها من الإسلام فقهاً وشرعاً وثقافة بقوله: “وإذا كان محمد بن عبدالله (ص) قد نهى عن العصبية النسبية – يقصد العرقية – وقال: “من دعا إلى عصبية فليس منا” فإنه من الواجب ألا تورث العصبية الدينية، بل انها أولى بالمنع. إذ أن العصبية النسبية قال فيها الذين برروها أنها قرابة النسب والدم. فلا نجد مبرراً ولو كان على سبيل الباطل للعصبية الدينية. إنها الافتراق الذي لا مبرر له من دين أو عرف أو أمر تواضع الناس عليه ولو باطلاً” (أبو زهرة: الإمام الصادق).
أي نعم ولو باطلاً. وحسبك أن تفتقر قضية ما حتى لتبرير باطل لتكون في هذه الحالة هي نفسها الباطل ذاته.
ما الذي نعنيه بالعصبية الدينية على وجه الدقة؟
بكل وضوح وبساطة بالغين، هي أن يحتكر فرد أو جماعة حق الفهم لنص من نصوص الدين، أو حتى تفسير الدين نفسه وفق فهمه الخاص. ثم يفرضه أو يحاول فرضه على الغير فرضاً باعتباره هو الدين ذاته. بحيث يصبح الذي يخالفه في الفهم أو التفسير مخالفاً للدين نفسه، مخولاً لنفسه – بمقتضى ذلك – حق التفكير أو على الأقل “التبديع”. ومن ثم: طرد العباد من الدين أو إدخالهم فيه بناء على موقفهم من فهمه النسبي المحدود وتفسيره الخاص المغلق على ظروفه ومعارفه التي لا تتجاوز حدود مداركه المحدودة على كل حال.
إن هذا المنحى ليس نادراً في تاريخ الأديان، بل هو – في الواقع – حالة متكررة كأنما تواصى بها أتباع الأديان أو توارثوها جيلاً بعد جيل، إنها ظاهرة ماثلة في التاريخ على اختلاف الملل والنحل والأمم والأجناس. والقرآن الكريم يحدثنا في أكثر من موضع بأن الناس لم يختلفوا إلا بعد أن جاءتهم البينات بغياً بينهم. ومن الواضح أن هذا البغي يحدث حين يحتكر فرد أو جماعة حق ذلك الفهم، ويحاول فرضه على الآخرين، فيحصل الاختلاف وتندلع الخصومة التي إنما “تنبعث من التعصب” حسب تعبير الشيخ أبي زهرة رحمه الله.
ويعرف من له إلمام بالتاريخ الآثار المخيفة للتعصب الديني، وما تزال الشواهد على ذلك قائمة ماثلة في كل مجتمع.. بلغ الأمر بهذه العصبية الدينية في الهند حداً جرد ملايين البشر من إنسانيتهم ونفاهم بعيداً عن حدود الكرامة الإنسانية، وأصبح المنبوذون شاهداً حياً على المدى المفزع الذي قد تصل إليه هذه العصبية.
وقد اصطبغ تاريخ أوروبا بلون الدماء التي أريقت بين الطوائف المسيحية ذاتها بعد أن سامها التعصب اليهودي والروماني قبل ذلك سوء العذاب. ثم ما لبثت أن مارسته ضد نفسها. لقد دفعتها العصبية الدينية إلى الحروب الصليبية المشئومة بما انطوت عليه من ألوان بالغة الوحشية ما يزال عارها وشماً ثابتاً في عرض التاريخ الإنساني وأخلاقيته. وأشعلت ذات العصبية حرب المائة عام بين مسيحيي أوروبا أنفسهم أو داخل الوطن الواحد من أوطانهم، حتى لقد ذهب أربعون ألفاً من البروتستانت قتلى في معركة واحدة على أيدي الكاثوليك في فرنسا على سبيل المثال.. وقد تجاوزت هذه العصبية كل حد حين أقامت محاكم التفتيش شاهداً موغلاً في الفظاعة والوحشية على جنون هذه العصبية، حين تنطلق من كل عقال، وتتمرد على كل قيمة من قيم الأخلاق وكل ضابط من ضوابط الشرائع، وتمنح لأصحابها الحق، ليس في فرض قانون ظالم وحسب، بل في التحكم في مصائر الناس والحكم بالموت والحياة بأبشع الصور والوسائل بناء على خوالج النفوس وخطرات الأفكار وسرائر الضمائر.
ويمكننا أن نواصل تعداد الأمثلة الموفورة، فلا يزيدنا تعدادها إلا اقتناعاً بشرور هذه العصبية وآثارها، لأن المثل الواحد من الأمثلة المضروبة آنفاً يغني في الدلالة على ذلك غنى الكفاية التي لا يحتاج معها إلى مزيد.
غير أن الحاجة تظل ماثلة لدراسة هذه الآفة من خلال “نموذج” شاخص تكشف دراسته عن خصائصها من حيث هي ظاهرة.
في هذه الحالة، من الأفضل أن نلتمس ذلك في تاريخنا نحن، لأنه أوثق صلة بمشاكلنا وأقرب إلى وعينا بها وقدرتنا على مواجهتها.
وعلى هذا فإن الخوارج يمثلون – فيما أرى – أبرز ظاهرة في تاريخنا لهذه العصبية بأسبابها ونتائجها معاً.. إنهم “النموذج” الكامل لها. فقد اعتبروا فهمهم هو الكلمة الأخيرة في كل أمر من أمور العقيدة أو شأناً من شؤون الدنيا والدين، ثم حملوا سيوفهم على عواتقهم يفرضونها على الناس فرضاً بقوة السيف، واستحلوا دماء المسلمين وأعراضهم، وخاضوا فيها باستبسال نادر، مستبيحين دماء الشيوخ الركع والأطفال الرضع والأجنة في بطون أمهاتهم، وهم مع ذلك يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، ويقيمون الصلاة ويتسابقون على الموت في شجاعة عمياء تتقحم بهم لهوات الجحيم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
ويخطئ من يظن أن الخوارج قد انتهى أمرهم أو أنهم كانوا حالة تاريخية شاذة أو فريدة أو عارضاً تاريخياً انتهى أمره، إن الخوارج نموذج تاريخي لمنهج يقوم على عنصر “العمى عن إدراك الجوانب الأخرى”.
لذلك فالخوارج “ظاهرة” يدرسها الباحث فيقف على خصائص كل حركة مماثلة، لأنها خصائص واحدة، يجمعها الباعث الواحد والسلوك المشترك والنتيجة المتماثلة، ثم لا تختلف إلا في الوسائل الخاضعة لاعتبار الزمان والمكان.
وفي وسع الباحث أن يتقصى من خلال حركة الخوارج أسباب نشوئها وعوامل تكوينها وتاريخ تطورها، ويخرج من ذلك بقاعدة سليمة تنطبق على كل حركة خارجية انطباق القوانين الاجتماعية الصارمة. حيث يمكن،لا الحكم على حركة ما من ذلك النوع فحسب، بل والتنبؤ بها وبما لها وهي بعد جنين في رحم الأفكار.
بدأت حركة الخوارج – كما نعلم – بالتشدد والغلو، وتلك هي البداية لكل حركة من هذا القبيل. ثم قادها الغلو إلى التطرف، فأصبحت تأخذ من كل أمر أقصاه. ثم أوصلها التطرف إلى التعصب الأعمى، وقادها عمى التعصب إلى المروق من الدين الذي غلت فيه وتطرفت به. وتعصبت بعد ذلك لتطرفها هذا وليس للدين نفسه. حال العمى بينها وبين رؤية كل شيء لا يتفق مع هواها الذي تتعصب له وتتخذه ديناً تتعبد به.
إن الخط البياني للعصبية الدينية – كما تظهره هذه الحركة بوضوح – يبدأ بالغلو وينتهي بالتعصب. لذلك نرى القرآن الكريم ينهى بقوة ووضوح عن الغلو في الدين في آيات بينات لا تقبل التأويل. لقد أرسى القرآن قواعد السلوك الإيماني الحق على الحرية، وبلغ بآدابها أقصى مدى ممكن ومتخيل غير مسبوق ولا ملحوق. فقد أمر الله سبحانه رسوله الكريم أن يقول لخصومه وهو يحاورهم: “وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين” وجعل الجدال بالتي هي أحسن فرضاً من فروضه الأخلاقية وقانوناً من قوانين شريعته الملزمة، ليبلغ المدى الذي يكون فيه العدو كأنه ولي حميم. وليس بعد ذلك كله غاية يرجى بلوغها أو حتى الاقتراب من قمتها فيما يعرف البشر من أخلاقيات الدعوات وشرائع القوانين، بل ليس بعد ذلك ضمانة أقوى لصيانة القيم العملية للحرية والتسامح وآداب الحوار في إنصاف وسماح لا يجد معه أو فيه الغلو مكاناً أو مستقراً إلا كان – إذا حدث – خروجاً على المنهج كله، أي على الإسلام، ومروقاً منه إلى المنهج “الخارجي” المقابل القائم على التطرف والغلو والتعصب.
وليس ذلك في مجال الاعتقاد فحسب، بل هو كذلك فيما يتعلق بفروض العبادة وبكل أمر يتعلق بالدين. إن الغلو في ذاته منهي عنه على أي مستوى. وقد غضب صلى الله عليه وآله وسلم لما طلب من ابن عباس رضي الله عنه أن يلتقط له حصيات من مزدلفة، فجاءه بحصاة أكبر من حبه الفول، فردها صلى الله عليه وآله قائلاً له: لا تغلوا في دينكم، فإنما أهلك الذين قبلكم غلوهم في دينهم.
إن الرسول صلى الله عليه وآله يعلمنا بهذا أن الغلو في الصغيرة من الأمور يقود إلى الغلو في الكبير منها ويتحول إلى منهج ينتج العصبية من حيث هي نتاج للتطرف.
وهو صلى الله عليه وآله القائل أيضاً: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم”.
و”يسروا ولا تعسروا” كانت دائماً في طليعة وصاياه. وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، إلى مئات من الأمثلة والأحاديث في هذا المضمار، مما يجعل الغلو – حقيقة – مخالفة صريحة لأوامر الله ورسوله، ذلك لأن الغلو – على أي مستوى – يفضي إلى التطرف. وهذا يفضي إلى العصبية التي وقف الإسلام منها موقف الرفض الحازم الصريح.
إن الغلو في الاعتقاد يؤدي بالضرورة إلى الغلو في العمل – والغلو في العمل ينتج التطرف بحكم قانونه الخاص. وبحكم هذا القانون فإن التطرف يعاد إنتاجه كلما أخذ الغلو موقعه من نفوس مجترحيه أو عقولهم لينتج بدوره التعصب، فليس التعصب إلا المنتج الفعلي للتطرف في آخر المطاف.
والتعصب – كما أسلفنا – يلغي معيار الحق والباطل، ويتمرد على الحجة والبرهان، ويعمي عن رؤية أي جانب سوى ما يتعصب له. وبذلك تصبح العصبية لذاتها هي الهدف لذاته! لذلك لابد أن تكون مدمرة بطبيعتها وأن تعيد إنتاج قوانينها الخاصة، لتحقق نفس المصير الذي تسوقها إليه تلك القوانين. وحين تكون العصبية دينية فإنها تنتحل القداسة. وبذلك تعفي نفسها من كل تبعة أخلاقية وهي تقترف أبشع الجرائم.
ذلك هو الدرس المستفاد من قصة “الخوارج” وتلك هي القوانين المستخلصة من تاريخ تلك الحركة التي أسست تقاليدها المشئومة على نحو أو آخر، سواء عليها أتجلت في شكل ظاهرة سياسية أم تعصب مذهبي أم حركة جانحة!
ولا حاجة بنا إلى إعادة سرد الوقائع التاريخية لحركة الخوارج، فهي معلومة للجميع.
ما نتوخاه من ذلك إنما هو استخلاص الدروس ومعرفة القوانين التي ينتجها التعصب بإطلاق، ويعيد – بحكم ذلك – إنتاج أنماط التفكير العدواني وأنواع السلوك المعوج.
إن الخوارج لم ينفردوا وحدهم بذلك الدور، وليسوا هم الحالة الوحيدة، وإنما اخترناهم “موضوعاً” للدراسة لأنهم “المثل” الواضح و”النموذج” الأكمل في تاريخنا لدراسة الظاهرة واستخلاص نتائجها وقوانينها، وإلا فإن داء العصبية قد أصاب جميع الفرق على نسب مختلفة. وما مقولة “الفرقة الناجية” إلا تعبير عن هذه الظاهرة التي لم تكد تنجو من عقابيلها فرقة من الفرق. إن مقولة “فرقة ناجية” يعني أن ما سواها هالك لا محالة. وذلك هو الاحتكار بعينه، الذي ينتج التطرف، والعصبية التي تعزل الغير وتصادر حقه في مصداقية الصواب.
إن تعدد “الفرق” هو دليل تنوع لا تفرق، ناتج عن إعمال العقول واختلاف الأفهام. وهو بذلك ظاهرة صحية في نطاق قانون الله الذي لو شاء – سبحانه – لجعل الناس أمة واحدة وفي إطار مشيئته التي قضت أن يكونوا مختلفين. ولذلك خلقهم، ليتحقق بهذا الاختلاف التنوع الذي تقوم عليه الحضارات التي هي مجلى عبقرية الإنسان الذي خلقه الله ليعمر الأرض واستخلفه فيها ليقيم العدل، ونفخ فيه من روحه ليكتشف ويكشف الأسماء كلها، كادحاً – دائماً – إلى بارئه من كل طريق تعيده إليه، محققاً بذلك العبادة الحقة.
إن الاختلاف هو ناتج الحرية. لذلك فإن الذي منح الإنسان الحرية يوم خلقه هو الذي أعطاه حق الاختلاف في نفس اللحظة تماماً، بل جبله عليه، كما أعطاه الحرية بداية حين حمله أمانة المسؤولية. تلك سنة الله ومشيئته: تنوع في مجالي الطبيعة وآفاقها وظواهرها، وتنوع في ألوان البشر وألسنتهم وأفكارهم وعلومهم، وكلها في مشهد جليل تتجه في تنوعها البديع نحو مصدرها الواحد، لا يعكر هذا المشهد الجليل غير سوء استخدام الإنسان لسنن الرحمن.
لكن أصحاب الفرق هم الذين حولوا ذلك التنوع الخلاق إلى فرقة، بما استحدثوه من احتكار للصواب ومصادرة لحرية العقل والنظر والاختلاف، وباتباع مخز وخضوع ذليل لسيف السلطان وذهبه.
على أن هذه العصبية لم تقتصر على الأصول بل امتد شرها إلى الفروع. هكذا انتقلت عدواها من “الفرق” إلى “المذاهب” حيث نرى عجباً من أفانين الأفعال وضروب “التفريع” يوشك أن يلحق بعضها بالمأساة وبعضها بالمهزلة – الكوميديا – التي تثير السخرية والضحك، ولكنه ضحك – كما يقول أبو الطيب – كالبكاء.
نحن نعلم أن المذاهب قد نشأت أصلاً في كنف الأفق الرحب للشريعة، تعبيراً عن حيويتها التي أقامت منهجها على نسبية الفهم البشري لمطلق النص، والحرية الوارفة الظلال بمقتضى ذلك، والسماح الذي أفاء ظلاله على العلاقة بالآخر، مؤدياً إلى احترام كل فهم مختلف أو رأي مختلف. حتى كان أقصى ما يصل إليه المعتد برأيه إنما هو الاحتمال لا يغادره إلى القطع واليقين، كما في القول السائر للإمام الشافعي: “قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب” فهو الاحتمال في الجانبين على كل حال. ويبلغ مداه فيما استقر في القواعد الأصولية – لدى الزيدية كما لدى غيرهم – من أنه “لا يجوز النهي في مسألة خلافية لاحتمال أن يكون الحق مع المخالف”.
الإمام مالك – بدوره – رفض عرض المنصور عليه أن يحمل الناس على الالتزام بكتابه (الموطأ)، رفضاً منه لاحتكار الشريعة، وهو الذي يقول: “إن كل واحد يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر” مشيراً إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وما من إمام من أئمة المذاهب الباقية والمندثرة إلا وله أثر يدل على هذه الوجهة العامة من قول أو فعل. وهكذا وسعت الحرية الواسعة جميع الأفهام والمذاهب، وأصبحت الثروة الفقهية الهائلة التي نتجت عن ذلك واحدة من أغنى وأقوى ثروات التراث القانوني في تاريخ العالم إن لم نقل أغناها جميعاً.
وإذن، فالمذاهب بحد ذاتها دليل حيوية رشيدة في المنهج. وأية حرية مبصرة للعقل في التعامل مع النص والاشتراع حيث لا نص، ومساحة سماح يتحرك عليها جميع المذاهب والآراء والأفكار في حرية ويسر، وتختلف فيها العقول والأفهام في محبة وإجلال. ولا جرم أنها كانت مصدر إشعاع وإثراء ومصدر خير وتوسعة ويسر على الناس.
لقد كانت العلاقات الحميمة بين أئمة المذاهب أنفسهم هي الصورة الجميلة العملية لذلك كله، حيث جسدت تلك القيم والمفاهيم أمثلة حية من الناس، عملاً وسلوكاً.
ذهب الإمام الشافعي إلى مسجد الإمام أبي حنيفة، فأدى الصلاة على هيئة من مذهب الإمام أبي حنيفة خلافاً لمذهبه هو ولما سئُل عن ذلك أجاب بأنه عمل ذلك إعظاماً للإمام أبي حنيفة أن يخالفه في مسجده.
ولما بلغ الإمام أحمد وفاة الإمام الشافعي جزع عليه وحزن حزناً عظيماً، ولما سأله سائل عن ذلك وهو مخالفه في المذهب، قال قولته الرائعة: كان الشافعي كالعافية للجسد وكالشمس للحياة.
وقال الإمام أبي حنيفة عن الإمام زيد: لقد ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر.
فانظر إلى رحمة الله وآثار شريعته المتجلية في هذه الصور المتألقة، ثم انظر إلى آراء العصبية المقيتة التي شوه بها الأتباع تلك المعالم المضيئة، بما اجترحوا من ضروب التناحر والخصومة والتنابذ ” التي إنما تنبعث من العصبية”.
لقد ذهب الأئمة المجتهدون، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الأسس التي انطلق منها الأئمة، وحبسوا أنفسهم في اجتهادات هؤلاء الأئمة العظام، يستنبطونها بدلاً من استنباط الشريعة. ويفرعون عليها لا على كتاب الله ولا سنة رسوله ولا مصالح العباد، رغم تحذير الأئمة أنفسهم من ذلك ونهيهم الشديد عنه. تعصب كل فريق لمذهبه وانغلق عليه، وأصبحت مهمته هي الذود عن المذهب لا الوصول إلى مقاصد الشرع. من هنا نشأت “الطائفية”. أصبح كل مذهب طائفة تتمترس خلف منظري المذهب الأقدمين الذين حبسوا أنفسهم في اجتهاد الإمام المؤسس وأقاموا عليها القواعد التي تحكم “التفريع”. ثم ذهبوا “يخرجون” عليها، ثم يخرجون على “التخريج”، حتى بات الفقه تكراراً ممجوجاً، لا أثر للوحي عليه ولا دور للعقل فيه، ولا صلة للواقع به، ومن هنا حلت “الطائفية” بدلاً عن المذهب، فأصبحت العصبية للطائفة، وأصبح المذهب تابعاً لها وليس العكس.
إن الطائفية بهذا المعنى، لا المذاهب، هي الأثر الأسوأ من آثار العصبية. فقد أدى الجمود إلى التطرف، وأدى التطرف إلى العصبية، وأفرزت العصبية الطائفية.
ومجمل القول وخلاصته: إن العصبية إذا دخلت على الاعتقاد أفضت به إلى الجمود على رؤية جانبية أحادية النظرة تؤدي إلى التكفير الذي يؤدي إلى إعلان الحرب على المجتمع – كما في حالة الخوارج القدامى والجدد. وإذا دخلت على الفقه أدت إلى الخلاف المنهي عنه وإلى الخصومة – كما في حالة المذاهب. وفي الحالتين كلتيهما تؤدي إلى الفتنة، والفتنة أشد من القتل، لأنها صارف فاجع باهظ الثمن عن جادة السير السوي وانتكاس إلى بؤرة تحبس أي مجتمع من الخروج عن دائرتها وتستهلك قواه، وهي تطحن بعضها في صراع مفرغ من كل معنى، كما تطحن ما تحت أقدامها حيوانات تصطرع في حظيرة مغلقة.
على أننا ننظر إلى مقدار النجاح الذي تصيبه العصبية فلا نجد غير الفشل في الغايات الذي يساوي الفتنة في الوسائل. أينما توجهنا بالنظر من تجارب الدعوات التي تسلحت بالعصبية فإنها جميعها لم تصب إلا الدمار لذاتها والتدمير لغيرها.
وفي هذا نعود ونستدعي نموذج الخوارج مرة أخيرة لنستخلص آخر دروسه وعبره، فإن حركة الخوارج منذ بدايتها لم تفض إلا إلى نتيجتين اثنتين:
أولاهما: أنها لم تحقق من أهدافها شيئاً، وعلى العكس فقد حجب غلوها بعض جوانبها المشرقة، وانتهت على كل حال بعزلة تامة عن حركة التاريخ العام في محيطها، فدمرت نفسها.
ثانيهما: أنها في البداية – وقد عجزت عن “فرض” وجهتها – قد أسهمت بمواقفها العصبية في إضعاف الحق وتقوية الباطل الذي أدعت تصديها له.
لقد كانت أحد أهم الأسباب في انتصار ذلك الباطل، بما اجترحته من آثام وشقاق أعاق موكب الحق عن تحقيق انتصاره الذي كان منه قاب قوسين.
تدمير للذات.. وتمكين للباطل في غمار فتنة تهدر فيها كل الحقوق، وكل المعايير، وكل القيم. تلك جريرة العصبية على كل مستوى، وعلى مستوى الدين قبل أي مستوى، وإنها لجريرة يعتبر بها من اعتبر، ويحترق في أتونها من حرم الاعتبار.
و..”دعوها فإنها نتنة”.
نعم دعوها لأنه “ليس منا من دعا إلى عصبية”.
ويجب أن لا ننسى بأن من يقول هذا هو نبي الإسلام.. فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
كاتب وشاعر من اليمن
*(سيرياهوم نيور1-صحيفة “الأهرام” القاهرية – 22/7/2012)