آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » عن الماغوط ومحمد الضيف

عن الماغوط ومحمد الضيف

 

رأي بشار اللقيس

 

«تصوَّر فتى في العشرين من عمره يقف على شواطئ الأندلس وحيداً شريداً ليس في فمه كسرة خبز يبتلعها، وبعد عشر سنين، كان في فمه مصير العالم»من مسرحية «المهرّج» لمحمد الماغوط، في وصف «أبو خالد» لـ«صقر قريش» عبد الرحمن الداخل

 

نادرة هي الدراسات التي خرجت عن نسق الباراديغم الأوروبي لواقعنا العربي اليوم. وأكثر ندرة هي الدراسات التي تتناول علاقة التداخل والتخارج بين حقلين معرفيين بعيدين عن بعضهما البعض بحسب التصنيف الأكاديمي. بالأساس، ولدت مؤسسة الأكاديميا في عالمنا العربي مستلَبة الإرادة للأوروبيين. فتحتَ ضغط حقبة التنظيمات العثمانية وسعي العثمانيين للحاق بأوروبا، ولدت الجامعة كصرح تعليمي في منطقتنا (شكّلت كلّيتا الطب والهندسة في الآستانة وفي القاهرة نواة التعليم العالي الأول في منطقتنا). كان من مهام الجامعة، عند تأسيسها في القرن التاسع عشر في منطقتنا، إنتاج طبقة تكنوقراط قادرة على إدارة جسم الإمبراطورية الجديد ومؤسساته. المشكلة تفاقمت بُعيد انهيار السلطنة العثمانية ومع بدء مرحلة الاستقلال. فلقد التبس دور الأكاديميا ووظيفتها أكثر فأكثر. فيما أدّت الجامعة إبّان تلك المرحلة دوراً مزدوجاً؛ هي أعدّت نخباً تكنوقراطية لتسيير شؤون الدولة، هذا صحيح، لكنها أدّت دوراً أكبر في مركزة «التبعية الثقافية – السياسية» للغرب. فلقد ظهر التمركز الغربي في الأكاديميا العربية باتجاهين: الأول إرفاد جيوش من الخريجين للغرب بما يعزّز السيطرة والهيمنة الغربية على العالم. والثانية (وهي الأخطر) إعادة إنتاج الخيال العلمي والثقافي لشعوبنا وفق التصور الغربي حصراً.

حسناً، كل ما تقدّمتُ به إلى الآن بديهي ومسلّم به حتى عند ناقدي «نقد المركزية الأوروبية». فمدرستا «ما بعد الاستعمار» و«التبعية» ما أعدمت الفقيه حجّة بإنتاج وإعادة إنتاج هذه الفكرة منذ أواسط السبعينيات. لكن المشكلة مع ذلك ظلّت أعمق مما طرحته هاتان المدرستان. المشكلة أن منتقدي المعرفة الاستعمارية، أنفسهم، يعيدون التماهي مع خيال الأكاديميا الغربية عن المعرفة والحياة من حيث لا يتصوّرون. إنّ خيال كثير من «ناقدي الاستعمار» عن التاريخ، السلطة، الثقافة، السياسة، هو في أحيان كثيرة صورة طبق الأصل عن خيال الأكاديميا الغربية. تقسيم العلوم والفروقات الحقلية بينها (وغالبها تقسيمات وفروقات خاضعة لمنظور الدولة الغربية ونظام تقسيم العمل في أوروبا فترة القرن التاسع عشر)، مفاهيم التقدّم، التنوير، الرجعية، وغيرها، هي نفس تلك التي أنتجتها الأكاديميا الغربية بحذافيرها. أمّا نقد الهيمنة أو المركزية الأوروبية، فليست غير إعادة إنتاج الهرم المعرفي الغربي معكوساً. مثلاً، جرّمت المسيحيةُ المثليةَ تاريخياً، إذاً، لنعيد قراءة التاريخ الإسلامي على الطرف النقيض: لم تكن المثلية محرّمة في تاريخنا السلطوي الإسلامي، بل كانت جزءاً عادياً من تاريخنا وثقافتنا (راجع «اشتهاء العرب» لجوزيف مسعد). مثالٌ آخر، الدولة الغربية هي دولة غير أخلاقية: حسناً، الإسلام ليس إلا خطاباً أخلاقياً، وهو غير قابل لاحتواء الدولة أو الانتظام بها (راجع «الدولة المستحيلة» لوائل حلاق). يمكن أن نضيف إلى المثال الأخير تصوّرات طلال أسد، وصبا محمود، وغيرهما.

الواقع أن ثمة مشكلة مزدوجة عند هؤلاء النقاد للتاريخ الغربي وللمركزية الأوروبية. فهم لم يكونوا غير صدى معكوس في مرات كثيرة لتيار أو طبقة اتّسع هامشها في الأكاديميا الغربية. فمن قبل، كان الأكاديمي يتقدّم سفن الاستعمار بحثاً عن الموارد والشعوب تشريحاً ونهباً وإخضاعاً. وكانت مهمّة الأكاديمي الغربي إعادة إنتاج الهيمنة وممارساتها الخطابية في الأخلاق، المعرفة، السياسة، والثقافة. أمّا الأكاديميا الغربية اليوم (تحديداً العلوم الإنسانية)، فقد فقدت ريعية وضعها. هي صارت على هامش منظومة السيطرة سياسياً وثقافياً أكثر فأكثر. هذه الوضعية بالتحديد أتاحت لها هامشاً من نقد «ماكينة السيطرة» التي لم تعد هي على رأسها أصلاً. خطاب نقد الهيمنة الاستعمارية بهذا المعنى خطاب طبقة فقدت حظوتها، وخطاب جماعة هي على أتمّ الاستعداد لنقد ذاكرة/ تاريخ الغرب المستعمر وأدوات استعماره التي كانت هي نفسها ضحيتها، فيما خيالها لا ينفكّ يعيد إنتاج مقولات «لا-هيمنيّة» (تخيّلوا، هل يمكن أن يكون هناك تاريخ بلا هيمنة؟).

كثيرون يسبّون الغرب ويلعنون ساعته، لكنهم حريصون على بقائهم في كراسي الدراسات النقدية في المؤسسات الأكاديمية الغربية. الفكرة أن مثل هؤلاء لم يستطيعوا الخروج من إطار الخيال الغربي للأكاديمي والمثقف

 

مرّة جديدة، المشكلة ليست في تحوّلات الأكاديميا الغربية، وربما يكون في اتساع هذا التيار في أوساط الأكاديميا الغربية ما يمكن الاستفادة منه. المشكلة هي في الأكاديمي العربي الذي ترك شعوبنا وراح يبحث عن سبل تشريح الهيمنة (عن لقمة العيش في حقيقة الأمر) ونقدها من ضمن مؤسسات الغرب الأكاديمية نفسها. كان إدوارد سعيد ناقداً لخطاب الهيمنة الاستشراقي، هذا صحيح، لكنه كان يفضّل الكلام باللغة الإنكليزية في بيرزيت. كثيرون يسبّون الغرب ويلعنون ساعته، لكنهم حريصون على بقائهم في كراسي الدراسات النقدية في المؤسسات الأكاديمية الغربية. الفكرة أن مثل هؤلاء لم يستطيعوا الخروج من إطار الخيال الغربي للأكاديمي، والمثقف، الذي يقتصر دوره على تشريح التاريخ وكشف لثام تشوّهاته فحسب (هذه النظرة بالتحديد نابعة من مرجعيات تيار الوضعية المنطقية المستحكم بالغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، والتي تبني خيالاً لعلاقة المثقف بالمجتمع قائم على تصور الذات/ المثقف في قبال الموضوع/ المجتمع بشكل مخبري).

في المقابل، ثمّة تجارب ثقافية من خارج الأكاديميا نحن في أمسّ الحاجة إليها اليوم. محمد الماغوط، على سبيل المثال، لم يحمل شهادة جامعية ولم يبدع نصوصاً في الأكاديميا الغربية، لكن نصوصه المسرحية تكشف لنا الكثير مما لم تكشف لثامه نصوص «نقد الاستعمار». مسرحية «المهرّج»، مثلاً، كانت كفيلة باستنهاض واقع مخزٍ ما زلنا نعيشه إلى اليوم. كيف؟ أعلم أن «المهرّج» لم تكن من عيون ما كتبه الرجل، لكنّ قليلين يعلمون أثر هذه المسرحية في تشكيل شخصية محمد الضيف (نعم محمد الضيف، القائد الجهادي الذي يقود اليوم أكبر ملحمة قتالية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي). لقب «أبو خالد» الذي اكتسبه الضيف كان بسبب تمثيله مرّةً لدور «أبو خالد» في مسرحية «المهرّج». محمد الضيف كان فناناً مسرحياً من قَبل أن يكون مقاتلاً، والماغوط كان مقاوماً – بهذا المعنى – من قبل أن يكون كاتباً.

في «المهرّج» يتوجّه الماغوط إلى الشباب العربي من خلال سرده قصّة فرقة مسرحية هاوية تريد تقديم نصوص مسرحية عالمية في إحدى البلدات أو القرى. تتتالى المشاهد في المسرحية وتتتالى الإهانات للفرقة السيئة الأداء. في المسرحية، أستاذ لغة عربية (إنسان وظيفي) مشاهد لعروض الفرقة لم تثر ثائرته السجون ولا المعتقلات، بل قواعد اللغة العربية. وفي المسرحية جمهور مقهى لا يردّد غير الشعارات (يسقط الكاتب الاستعماري شكسبير، يسقط، يسقط، يسقط… يسقط حلف الأطلسي، يسقط، يسقط، يسقط). لكن روح «صقر قريش» (عبد الرحمن الداخل) تشاء أن تدخل المسرحية لتحاكم المهرّج الذي هزئ بها وبتاريخنا العربي. في المسرحية عبارة لـ«أبو خالد» في وصف «صقر قريش»، تقول للفتى المهرّج: «تصوَّر فتى في العشرين من عمره يقف على شواطئ الأندلس وحيداً شريداً ليس في فمه كسرة خبز يبتلعها، وبعد عشر سنين، كان في فمه مصير العالم». أتأمّل العبارة اليوم، ولست أدري إن كانت في وصف عبد الرحمن الداخل، أو محمد الضيف نفسه. تخيّلوا محمد الضيف، الشاب العادي الذي صدح بها مرّة على أحد المسارح الشعبية في غزة، صار في فمه – بعد عشرة أو عشرين عاماً – مصير العالم. لن تستطيع الأكاديميا الباردة تشريح هذا الأمر بالتأكيد.

ومن المؤسف ألّا تقع أعيننا على دراسة عربية واحدة عن الأدب العادي كفعل منتج للخيال السياسي. تلك مهمّة قد أعفت الأكاديميا الباردة مسؤوليتها عنها منذ أن فصلت أوروبا قوّة الرغبة عن قوّة العمل في دراستها للإنسان. تخيّلوا ما أضيق جامعاتنا ومعارفنا بلا أدب الماغوط، تخيّلوا بيوتنا من غير «ضيف» كم كانت ستضيق.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هل حان دور سورية في حرب التدمير والابادة؟

  ميخائيل عوض تزداد مناسيب القلق على سورية ومستقبلها وتكثر التسريبات والتحليلات عن خطط اجتياحها. فاين تذهب الامور؟ وما هي المعطيات؟ نتنياهو اعلن حربا وجودية ...