آخر الأخبار
الرئيسية » إدارة وأبحاث ومبادرات » عن تجرتبي في الصين خلال 6 أعوام 

عن تجرتبي في الصين خلال 6 أعوام 

 

 

لجين عصام سليمان

 

 

في التَّاسع من أيلول عام 2019 غادرت الأراضي السُّوريّة ودخلت الصِّين، لم يكن الأمر سهلا فهي بلاد غريبة بكلّ ما تعنيه الكلمة، هذا بالإضافة إلى أنَّني قد تركت ورائي بلاداً تحوم حولها أشباح الحرب، وجئت طالبة الأمان في بلاد يُضرب بها المثل لشدة بعدها حيث يُقال لطُلّاب العلم في بلادنا: “اطلبوا العلم ولو في الصِّين”.

دخلت تلك البلاد مُتَردّدة خائفة من كُلِّ شيء، أخشى كُلّ ما فيها لأنَّه يمثّل المجهول، مجهول اتَّبعته كي أحقّق طموحاً بات من الصَّعب تحقيقه في بلادي التي أُحب، مؤمنة أنَّه مع كُلّ عثرة تُخلق فرصة، وفي كُلّ محنة لا بدَّ من وجود عبرة.

دخلت “جامعة تشونغشينغ” للمَرَّة الأُولى وأنا أرتجف خوفاً، ولكن كان عليّ أن أتغلّب على هذا الخوف وأعبر إلى ضفة أخرى علّها تكون أكثر أمانا، وصلت مكتب أستاذيّ المشرف، لم أكن أعرف حينها أنَّه سيكون الطَّريق إلى الأمل والأمان في حياة جديدة.

كان لديّ مشرفان: الأوّل هو “البروفسور” أستاذ قدير كبير في السن، والثَّاني هو “الدُّكتور” الشَّابّ الطَّموح الذي يُؤمن بالعلم والعمل ويُنجز العمل بدون أيِّ تَردّد، وبعد حوار قصير، على الطَّريقة الصِّينيَّة التي تفضّل الفعل أكثر من الكلام، استلمْتُ المشروع الذي سأنجز به رسالتي للدكتوراه، وهنا بدأْتُ تحدّيَّاً آخر؛ وهو أنَّني قد قَدِمْتُ من بلاد نامية إلى بلاد مُتطوِّرة بِصُورةٍ كَبيرة، والفرق العلميّ واضح، وهو ما جعلني أخافُ كُلَّ عقبة صغيرة تصادفني في العمل.

أذكر مَرَّة أنَّني لم أَنَمْ يومين متواصلين كي أحلَّ مشكلة في البحث، وعندما تحدّثت إلى أستاذيّ المشرف في تلك المشكلة ضحك قائلاً: “لا تُثقلي نفسك فكريّا، فَالباحث يواجه كثيراً من المشاكل، وهذا عملنا”. وفي الحقيقة أعطاني جرعة من الصَّبر دفعتني إلى بذل مزيد من الجهد واجتياز العقبات، وفي كُلّ مَرَّة كنت أدخل مكتبه، كنت أشعر بالثِّقة والسَّعادة وضرورة الصَّبر على صعوبات العمل، الأمر الذي لم أكن قد اعتدت عليه في السَّابق. وكنت أشعر بالتَّشجيع في صوته وأراه في عينيه. ولم يكن يكتفي بالجانب العلميّ، بل كان ينظّم لنا مجموعة من الرَّحلات ضمن المدينة لأتعرّف على الصِّين، فقد كان يشعر بضرورة تقديم بلده لي كأجنبيَّة، كان يشرح لي كُلّ تفصيل في الحدائق، والمدن القديمة، وكنت دائما أشعر بأني أنتظر اللَّحظة التي سأعود فيها إلى بلادي وأشارك في تحقيق نهضة شبيهة بمثيلتها الصِّينيَّة.

عرّفني أستاذيّ المشرف على طريقة أخرى في الانتماء إلى العالم، بعيدة عن الحدود القوميَّة للدول، هي انتماء على الطَّريقة الصِّينيَّة أيضا؛ انتماء للإنسان. وأذكر مَرَّة كنا في حديقة “اكسبو غاردن” ذلك المكان الذي يجمع الصِّين في حديقة واحدة، وكان يعرّفني على كُلّ جزء من الحديقة ويشرح لي أيَّة مدينة صينيَّة يمثّل، وعندها سألته: “إلى أيّ مدينة تشعر أنَّ انتماءكَ إليها أكبر؟”. ردّ قائلا: “أنا أنتمي إلى الأرض كلها ، أنا الأرض”. عرّفتي على المدينة القديمة في “تشونغشينغ” وعلى الفرق بين ماضيها وحاضرها، وتمنيت لو أنَّني أستطيعُ، بالفعلِ، العودة إلى سوريا، لأخلق مدينة قديمة في العاصمة دمشق مشابهة لتلك المَدينة الصِّينيَّة.

وبعد عام ونصف من التَّشجيع الدَّائم والمستمرّ، نشرْتُ البحث الأوّل في مجال “هندسة الأنفاق”، ولن أنسى سعادته وشعوره بالفخر، ولرُبَّما كانت سعادته تفوق سعادتي بكثير، قال لي عندها: “استمّتعي باللَّحظة، وآمنيّ بأنك تستطيعينَ تحقيقَ كثيرٍ من الأهداف”.

وأمَّا اليوم، بعد أن أمضيتُ في الصين ست سنوات متواصلة، فإنَّني تعلّمْتُ كثيراً! وأهمُّ ما تعلمته الوصفة الصِّينيَّة لعلاج أيَّة مشكلة، ألَا وهي مُثلَّث من ثلاث نقاط “الألم، والأمل، والصَّبر”، ورُبَّما قد يكون هذا هو العلاج الذي اتَّبعتُه الصِّين للوصول إلى ما هي عليه اليوم.

أخيراً. لعلّ أكثر ما نحتاجه نحن الطُلّاب الذين تركنا أوطاننا هي محبَّة الدُّول المضيفة، محبَّة تشعرنا بالانتماء إلى الإنسان، بدلا من حروب آلمتنا في أوطاننا فغادرنا مع آلامنا لنجد بقعة أخرى تحتضن أحلامنا، بقعة آمنة ومُحبَّة كالصِّين، كان أستاذيّ المشرف أحد النِّقاط المضيئة فيها، وقدّم لي مثلا عما يجب أن يكونَ عليه الباحث الجامعيّ.

عُموماً، حاولْتُ في هذا الكتاب تقديم الصِّين من جوانبَ معيّنةٍ، قد تكون بِمنزلة عِبَرٍ ودروس لنا نحن القادمون من بلدان نامية متأخّرة، وأملي من خلالها أن أستنهض في الشرق العربي ما رأيته من تجارب في الشَّرق الأقصى الصَّاعد.

*مقدمة الكتاب الصادر للكاتبة تحت عنوان (نهضة الصين..مقاربات في التنمية والمجتمع وبناء المستقبل)

(أخبار سوريا الوطن1-صفحة الكاتبة)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

التحضير لأول انتخابات برلمانية بعد سقوط الأسد: الرهان على كسر إرث الماضي لا إعادة إنتاجه

    بعد اكتمال الترتيبات على الورق، دخلت سوريا المرحلة الميدانية من أول انتخابات برلمانية انتقالية، لاختيار أعضاء مجلس قد يتغير اسمه قريباً. يأتي ذلك ...