*حسن م. يوسف
“هل أنت جدير بأن تكون سورياً ؟”
لست أطرح هذا السؤال عليك أيها القارئ العزيز، بل على نفسي. فكلما قرأت عن سوريتي أكثر، وفكرت بها أكثر ، اكتشفت أنني جاهل بها أكثر.
عايدني صديق لي على الفيس بوك يسمي نفسه سيزيف السوري، لمناسبة رأس السنة السورية الذي يصادف الأول من نيسان..صحيح أنني سبق وقرأت الكثير عن سورية وجلت في كل أنحائها وكتبت عن بعض أسرارها، إلا أن معايدة الصديق سيزيف جعلتني أركز قراءاتي حول رأس السنة السورية، فاكتشفت أنني أعرف الكثير من تفاصيل الحكاية دون أن أعرف الحكاية نفسها. وقد غاظني تقصيري تجاه تاريخ بلدي فلم أملك إلا أن أسأل نفسي مرة أخرى: هل أنت جدير بأن تكون سورياً!
أول ما استوقفني هو أن التقويم السوري يتقدم على التقويم العبري بألف عام وعلى التقويم الفرعوني القديم بخمسمئة عام، وأنه مرتبط بأساطير الخصب المنبثقة من أحوال الطبيعة وتعاقب الفصول .
يرتبط التقويم السوري بعشتار الربة الأم الأولى منجبة الحياة، نجمة الصباح والمساء في آن معاً، الربة التي تصفها النصوص القديمة بأنها “في فمها يكمن سرُّ الحياة، ومن أعطافها يعبق العطر والشذا ويكتمل بحضورها السرور، ويشيع من ابتسامتها الأمن والطمأنينة في النفوس.” عشتار التي ظل الناس يتصورونها لآلاف السنين وهي “تجوب الحقول بخفَّة ورشاقة، فتتفجَّر الينابيع خلفها بالماء والعطاء، وتُزهر الأرض بالسنابل والنماء.”
عشتار التي تلقب في الأسطورة بـ ” أم الزلف”. وهي نفسها أم الزلف التي مازال الناس يغنون لها في أرياف سورية الطبيعية : “عالعين يم الزلف زلفة ياموليا ” نعم نغني لعشتار دون أن ندرك ذلك ، فكلمة “زلف” تعني بالسريانية أشياء كثيرها أولها : “الثوب الموشى، الزينة ، الجمال..الخ ” أما كلمة “موليا” فتعني: “الخصب, الوفرة, الامتلاء, الاشباع…الخ” وهذه المعاني كلها تتصل بعشتار الأم والأرض والطبيعة.
يتوقف الدكتور أحمد داوود في كتابه “تاريخ سوريا الحضاري القديم” عند طقوس الخصب
في سورية القديمة ويكشف مدى تداخلها المنطقي مع دورة الطبيعة. ففي نفس الموعد من كل عام تنزل الآلهة عشتار الى العالم السفلي لإنقاذ الإله تموز، وتنجح في ذلك ليعم الخير وعندما يقوم تموز من الموت ترتدي عشتار في هذه المناسبة ثوباً موشى “زلف” يزدان بكل أنواع الزهر والثمر…الخ كما تتجدد الخصوبة في الطبيعة.
كانت احتفالات رأس السنة السورية تبدأ في الحادي والعشرين من آذار .الأيام الأربعة الأولى منها تخصص لتقديم المسرحيات ورواية الأساطير. بعدها تبدأ الاحتفالات الدينية لتبلغ ذروتها في عيد رأس السنة السوري في الأول من نيسان، ثم تستمر حتى العاشر منه. وخلال كل هذه المدة كان من المحرم على الناس تأنيب الأطفال ومعاقبة العبيد أو القيام بالأعمال اليومية أو انعقاد المحاكم.
ما أدهشني هو أن أسماء الشهور السورية ماتزال علي حالها منذ القدم وهي متصلة بدورة الطبيعة فآذار الذي تبدأ فيه الاحتفالات هو شهر الزهر ، نيسان- الربيع ، أيار -النور ، حزيران- حصاد الحنطة، تموز –فقدان المُخَصِّب حبيب عشتار، أيلول “أولولو” شهر الولولة على “تموز” لزوال خصبه …الخ .
والحق أن الاحتفال بعيد رأس السنة السورية ظل مستمراً في بلادنا عبر آلاف السنين ، تحت اسم عيد الرابع، الى أن حجبته الضرورات الأمنية قبل سنوات ، ففي الرابع من نيسان حسب التقويم الشرقي الذي يصادف السابع عشر من نيسان حسب التقويم الغربي،كانت تقام الأفراح وتعقد الدبكات، في مختلف أنحاء الساحل السوري.
صحيح أن أباطرة روما عندما حكموا هذه الأرض حاولو فرض أسمائهم على تقويمنا مثل يوليوس وأغسطس، لكن بصمتهم زالت بزوالهم.
يرى صديقي سيزيف السوري أن هذا العيد قد أخذ منا ثلاث مرات، الأولى عند فرض التقويم اليولياني، و الثانية عند فرض التقويم القمري، والثالثة عندما أمر “شارل” التاسع ملك فرنسا قبل أربعمئة وخمسين عاماً باعتماد التقويم الغريغوري ونقل رأس السنة من أول نيسان الى أول كانون الثاني ، فقد أطلق على رأس السنة السورية اسم April fool أي أحمق نيسان ، وهي عبارة كانت تطلق على أي شخص ينسى أن رأس السنة قد تم نقله من واحد نيسان إلى 1 كانون الثاني. ومايحز في النفس هو أننا، لغفلتنا، جارينا خصومنا في الاستهزاء بتراثنا فاعتمدنا الأول من نيسان عيداً للكذب، جاهلين أنه عيدنا الذي ضيعه جهلنا!
(سيرياهوم نيوز ١-من دفتر الوطن)