أسعد أبو خليل
توالت المراثي عن الراحل سليم الحص من جهات متعدّدة وشخصيّات متنوّعة وكلها تُثني على مزايا الرجل الفريد وصفاته وحسن خلقه ونزاهته. المفارقة الكبرى أن الكثير من الذين رثوه وبكوه كانوا مسؤولين عن تهميشه ومحاربته وإبعاده عن الساحة السياسية كي يفسحوا المجال لحيتان المال والفساد كي يعيثوا فساداً في لبنان والمنطقة. لم يكن مقدّراً لسليم الحص أن يصبح رجل سياسة أو حتى أن يتولّى منصباً رسميّاً في الدولة. كان مثال التكنوقراطي النزيه الذي يعمل وفقاً للمصلحة العامة من دون اعتبار للواسطة وللمصلحة الشخصية. وكان يتولّى التعليم الأكاديمي في الجامعة الأميركية في بيروت حيث أحبّه طلابه واستفادوا من علمه ومعرفته وعمل في الدولة في مهمة الحرص على الميزانية والمال العام. ترأسَ لجنة الرقابة على المصارف ومارس عمله من دون ضجّة أو أضواء. الياس سركيس كان مسؤولاً بالدرجة الأولى عن إدخاله إلى الحقل السياسي إذ تعرّف إليه عندما كان (أي سركيس) يتولّى منصب حاكمية مصرف لبنان والتي تولّاها في عهديْن متوالييْن. كان يحترم فيه علمه ونزاهته ويفترض، خطأ، أنه مثل المسلمين الذين عملوا في الدولة اللبنانية قبل الطائف، سيكون مطواعاً في يد زعماء الموارنة. أصبح سليم الحص رئيساً للوزراء في عهد سركيس في مفاجأة أزعجت السياسيين التقليديين. لم يكن مفترضاً أو ملائماً أن يدخل إلى نادي رؤساء الوزراء رجل من خارج النادي ومن خارج المصالح المالية. لم يكن محسوباً على أي زعيم، وهذا نادر جداً في الحياة السياسيّة اللبنانيّة (آنذاك أو اليوم). في البداية كانت العلاقة بين سركيس والحص حسنة وتعاونا في محاولة ترميم الدولة بعد حرب أهلية مدمّرة. لكن سليم الحص سرعان ما اكتشف أن الحكم اللبناني في ذلك الحين كان له وجهان: الوجه الرسمي البادي للعيان والذي يرتكز على المناصب الرسمية والذين يتولونها. أمّا الجانب غير الرسمي، فكان يتضمّن ما يُسمَّى، في الحياة السياسية الأميركية، «حكومة المطبخ» أو الدائرة الصغيرة الملتصقة بالرئيس والتي هي تتولّى الحكم خارج نطاق مجلس الوزراء والرسميّات. اكتشف سليم الحص أن سركيس كان يطبخ القرارات من خارج سياق مجلس الوزراء معتمداً على ثلاثية طائفية في الحكم تشتمل على سركيس وجوني عبده (الوكيل الأمين للمصالح الأميركية -والإسرائيلية في ما بعد- في لبنان) وفؤاد بطرس البطريرك المدني للمصالح الطائفية المسيحيّة في الحكم. فبطرس الشهابي السمعة كان في الحقيقة متعصباً طائفياً يطبخُ القرارات (مع الشريكيْن الطائفيّيْن) من دون المرور على رئاسة الوزراء. أصرَّ هؤلاء أن يكون رئيس الوزراء الجديد (وغير المُتمرِّس في الحكم) كما كان قبل الطائف، أي «طرطوراً» يسهلُ استبداله إذا ما تمرّد أو أثار اعتراضات كثيرة. الأزمة الكبرى في العلاقة بين الرئيس الماروني ورئيس الوزراء السني اندلعت في عام 73 عندما لم يستطع سليمان فرنجية أن يستبدل صائب سلام ببديل لأن الإجماع الإسلامي آنذاك والانتفاضة السياسية لليسار والمسلمين حرمت قبول مسلم ذي شرعية سياسيّة بالمنصب. حاول أمين الحافظ أن يقبل بتعيينه رئيساً للوزراء متمرداً على رئيس كتلته رشيد كرامي وكان ذلك الخطيئة السياسية في حياته والتي كسرت العلاقة بينه وبين الرجل الذي أدخله إلى الحياة السياسية، إذ إنه كان تكنوقراطياً مثله مثل سليم الحص في ما بعد.
حكم الياس سركيس في المرحلة الأولى من عهده معتمداً على توازن مختل (وكاذب) بين محاولة مسايرة سوريا وبين مسايرة القوات اللبنانية وجمهورها. صحيح أن تصادماً ما جرى بين العهد وبين القوات التي كانت تهدّد بلسان قائدها إمّا باغتيال سركيس مباشرة أو بشن انقلاب عسكري عليه يطيح به ويسلّم السلطة مباشرةً لبشير الجميل الذي لم يكن يحلم يومها بالوصول إلى سدة الرئاسة عبر سلسلة من الدبابات الإسرائيلية. روى سليم الحص عن تلك المرحلة في كتبه المتعددة الأجزاء ويُستقى منها أن الثنائي بطرس-سركيس انطلقا من عقلية طائفية مريضة في التعيينات في الدولة. لم يكن في واردهما تجاوز أو حتى إصلاح الحكم الرئاسي الديكتاتوري الذي ساد منذ الاستقلال حتى الطائف.
لقد حاز احتراماً غير عادي بسبب نزاهته وصدقه في خطابه والتزامه بمبادئ لم يحد عنها منها العروبة ومنها الالتزام بقضية فلسطين
الأمر الثاني أن بطرس-سركيس لم يعتبرا انشقاق سعد حداد حركة خيانية كما اعتبرها الحص، لا بل إن الثنائي رفض إلا وأن يوازي بين جيش لبنان العربي الذي انشقّ إصراراً على الدفاع عن لبنان بوجه عدوان إسرائيل (رغم ما شاب هذه التجربة من فساد ومن علاقة مع حركة «فتح» الفاسدة) وبين الانشقاق الذي رعته إسرائيل مباشرةً في داخل الجيش (أي حركة سعد حدّاد). الثنائي الحاكم بطرس-سركيس أراد رعاية تجربة ساعة حداد وحمايتها. وأراد الثنائي الطائفي من سليم الحص أن يستعمل مشروعيته الإسلامية للضغط على المقاومة الفلسطينية من دون أي ضغط من قبلهما على القوات اللبنانية المُؤتمرة بإسرائيل. سعى عبده وسركيس إلى استعمال الحصّ الحديث الصلة بالسياسة للضغط على المقاومة الفلسطينيّة (وبالنيابة عن المحور اللبناني-الإسرائيلي في بيروت الشرقيّة). وكانت العلاقة تسوء أحياناً بين الحصّ وقادة المقاومة. الجندي المجهول في تلك المرحلة الذي حرص على منع القطيعة بين الحصّ والمقاومة الفلسطينيّة كان رجل الأعمال اللبناني، هاني سلام، الذي جمع دائماً في منزله (القريب من منزل الحصّ في الدوحة) بين الحصّ وبين أصدقائه في قيادة المقاومة (وشعر بعض هؤلاء، بمن فيهم عرفات، أن الحصّ لم يكن صريحاً معهم ربّما لأن سركيس وبطرس لم يكونا يشركانه في صنع القرار).
ساءت العلاقة باستمرار بين الحص وبين سركيس حتى وصلت إلى الطلاق واستسهل سركيس الاستعانة برئيس حكومة آخر، وكان الأكثر مطواعية بيد الرئيس الماروني منذ تجربة سامي الصلح في عهد كميل شمعون: شفيق الوزان كان مجرّد منفذ لأوامر رئيسه، مُسبغاً عليها شرعية إسلامية لم يكن يتمتع بها بسبب انعدام شعبيته. وبعد نهاية تجربة شفيق الوزان في الحكم مع أمين الجميل سألتُه في منزله عن مراحل تلك التجربة وكان دائماً يجيبني: لم يكونوا يستشيرونني بشيء، كانوا يفعلون ما يفعلون من دون استشارتي بشيء. جوني عبده حاول أن يفعل الشيء نفسه مع سليم الحص بأن يحرمه من تقارير المخابرات اللبنانيّة بحجة أنه لا يأمن لمسلم ذي علاقة بالمقاومة الفلسطينية التي كان جوني عبده يتآمر ضدّها بالتوافق مع إسرائيل ومع أميركا. وكان الحصّ يصرّ على تلقّي تقارير المخابرات، الذي شعرَ أنه كان يتلاعب بالنسخة التي يُرسلها إليه.
ترك سليم الحص تجربة الحكم مع سركيس متمتعاً بشعبية يحسدها عليه الزعماء المسلمون الذين عملوا لعقود لكسب تأييد الجمهور. لقد حاز احتراماً غير عادي بسبب نزاهته وصدقه في خطابه والتزامه بمبادئ لم يحد عنها منها العروبة ومنها الالتزام بقضية فلسطين. بلغت سمعة سليم الحص المستوى العربي حيث اختاره زعماء القمة العربية في عام 1978 كي يمثّل إجماعها ضد مبادرة السادات وفوّضه بأن يسلم رسالة للسادات لثنيه عن خيار كامب ديفيد، ولكن السادات رفض تسلّم الرسالة أو استقبال الوفد الذي عاد على أعقابه.
عابَ البعض على سليم الحص أنه كان قريباً من سوريا، لكن في التقييم يمكن القول من دون مبالغة إنه كان أقلّ قرباً من النظام السوري، وخصوصاً من مخابراته، من كل رؤساء الحكومة الذين سبقوه و خلفوه. لم يتعاطَ مع المخابرات ولم يكن من هؤلاء الذين يزورون مكتب عبد الحليم خدام بطقوس تقارب أداء مناسك العمرة. لم يرتح النظام السوري لسليم الحص وفضّل عليه المخادعين الفاسدين الذين أتوا بعده.
رشيد كرامي (وكان نزيهاً) كان أقرب إلى النظام السوري من الحصّ على المستوى الشخصي. بقي الحصّ خارج الحكم فيما كان الوزّان مجرّد ألعوبة بيد الحكم الكتائبي. لم ينهر الحصّ في حقبة الاجتياح الإسرائيلي وكان أصلب من قادة الحركة الوطنيّة الذين انهار الكثير منهم ولاذوا بصائب سلام كي يحميهم. اغتيال كرامي على يد القوّات اللبنانيّة أعادَ الحصّ إلى الحكم وكان أصلب وأكثر خبرة. وقف سدّاً منيعاً بوجه تآمر أمين الجميّل ثم ضد محاولات ميشال عون للاستيلاء على السلطة كاملةً. لم تكن علاقة الحصّ بقادة الصفّ الوطني جيّدة وتعرّض لتهديدات بسبب استقامته وبسبب نبذه للطائفيّة بشتّى أشكالها. كتب الحصّ بصراحة عن تجربته تلك في الحكم.
آخر تجربة للحصّ في الحكم كانت في عهد إميل لحّود، وهي أتت بعد أن حارب الحريري الحصّ لسنوات طويلة. الحصّ كان نقيض الحريري في كل شيء: في السياسة وفي ممارسة الحكم. كيف يمكن مقارنة الحريري الذي كان يشتري النواب والوزراء والكتّاب والصحافيّين بسليم الحصّ الذي لم يكوِّن فريقاً خاصّاً به؟ تلذّذ الحريري بشراء معظم الذين كانوا في دائرة الحصّ، بمن فيهم حارسه الشخصي، أشرف ريفي. محمد قبّاني وخالد قبّاني كانا من حصّة الحصّ من قبل. قلقتُ كثيراً على مصير الحصّ في حملات انتخابات عام 2000 ولمستُ التحريض الطائفي المذهبي الرخيص الذي كانت حملة الحريري تشنّها. رجوتُه أن يردّ وأن يواجه الحملة لكنه رفض بشدّة وقال: لا يمكن لي أن أنزل إلى هذا المستوى. كان الحريري يريد إقصاءه بالكامل عن الحكم (ويعترف الحريري في الكتاب الأخير لباسم السبع عنه أنه كان يمقتُ الحصّ). وفي عقليّة الحريري الذكوريّة، أصرّ الحريري على ترشيح امرأة كي تهزم الحصّ وهكذا كان. كان الحصّ، بسبب نزاهته ومهادنته وأخلاقيّته، الخصم الأفضل للحريري.
لم يكن النظام السوري محبِّذاً للحصّ وفضّل عليه رفيق الحريري في عهد لحّود. لكن الخلاف بين لحّود النزيه والفاسد الحريري تفاقم ولم يكن هناك من مفرّ من الاستعانة بالحصّ. تجربة السنتيْن لم تكن ناجحة تماماً. لم يرد الحصّ أن يقطع مع السياسات الاقتصاديّة للحريري بالكامل (ويستشهد نجاح واكيم في كتابه الأخير بأقواله في هذا الصدد). وأرادت الحكومة أن تحارب الفساد فيما كان ميشال المرّ عضواً فيها. أصابني ذلك بامتعاض شديد يومها. سألتُ الحصّ عن الحكمة في توزير المرّ في حكومة تعهّدت بمحاربة الفساد. أشاح بيده وقال إن «قوى إقليميّة» أرادت ذلك. وعندما استفضتُ في الحديث عن ذلك عبّر عن عدم ارتياحه مشيراً إلى إمكانيّة وجود أجهزة تنصّت فتوقّفتُ. وسألته يومها عن الحكمة من توجيه الاتهام إلى وزير أرمني لجعله عبرة لمن اعتبر في وجود فاسدين من الطوائف الكبرى.
ماتَ الحصّ ولكن تجربته في الحكم ستبقى مثالاً لأجيال ستأتي. وسيأتي يوم ليس ببعيد سيُطلق فيه اسمُه الناصع على مرافق كُبرى في الدولة (وهي تحمل اليوم أسماء فاسدين ومتعاملين).
[ملاحظة: سأعود إلى مراجعة كتاب ديفيد هيل الجديد في الأسبوع المقبل]* كاتب عربي
سيرياهوم نيوز١_الأخبار