عبدالحليم حفينة
على مدى أيام، تصدرت الطفلة هايدي عناوين وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في مصر والعالم العربي، بعدما التقط لها مشهد عفوي وهي تقدم صدقة بخمسة جنيهات لرجل فقير؛ كانت كل ما تملكه لشراء عبوة شيبسي. التقطت كاميرا أحد المحال هذه اللحظة، ثم بادر صاحبها إلى نشرها على المنصات.
تحوّلت هايدي إلى “تريند” واسع الانتشار؛ احتفاءً بالفعل الإيجابي، لكن سرعان ما أصبحت مادة دعائية، تظهر مع المشاهير وتشارك في إعلانات تجارية. وهكذا انقلب فعل الخير البريء إلى باب للشهرة، مثيراً تساؤلات حول قدرة طفلة صغيرة على تحمل أعباء الشهرة وضغوطها، وحول ما إذا كانت قد دخلت دائرة الاستغلال التجاري.
هذه التساؤلات لا تتعلق بهايدي وحدها، بل تمتد لتشمل مئات الأطفال في مثل عمرها، ممن قد يواجهون وقائع مشابهة ويتعرضون لأضرار جسيمة لا يتوقعها الكثيرون.
اغتيال الطفولة
حول الأثر النفسي الذي قد ينعكس على هايدي وأقرانها ممن يتعرضون للشهرة المفاجئة، يقول الدكتور خليل فاضل، استشاري الطب النفسي لـ”النهار”، إن “هايدي لا يتجاوز عمرها ثمانية أو عشرة أعوام، وهو سن يندرج في مرحلة ما قبل التفكير المنطقي، حيث ينمو الطفل ذهنياً وجسدياً وهرمونياً. فإذا تعرض في هذه المرحلة لصدمة مثل الشهرة المفاجئة أو الظهور المكثف أمام الرأي العام، فإن ذلك يعد انتهاكاً لخصوصيته وبراءته، بل أشبه باغتيال للطفولة”.
ويشير فاضل إلى أن “هذا الاستغلال يعكس غياب وعي الوالدين واستغراقهم في الاستعراض”، وهو ما يسميه “عقدة الاستعراض، فالطفل يستخدم كواجهة للشهرة حتى وإن بدا الأمر فعلاً بريئاً. ومع انحسار الضوء فجأة، خصوصاً مع اقتراب المراهقة، قد يصاب بشعور عميق بالنقص، ويبحث عن وسائل أخرى للظهور، ما يمثل خطراً نفسياً كبيراً. أما إذا استمر الضوء طويلاً، فإنه يضر النمو الطبيعي، إذ يفقد الطفل جزءاً من طفولته ويتحول سريعاً إلى ما يشبه البالغ، بما يخلق أزمة في علاقاته مع أقرانه ويؤثر على دراسته وصورته عن نفسه”.
وفي السياق ذاته، كشفت دراسة أعدتها جامعة كامبريدج عام 2011 أن الممثلين الأطفال كثيراً ما يعانون ارتباكاً في تكوين الهوية، وضعفاً في مفهوم الذات، نتيجة اندماجهم مع الأدوار، وربط نجاحهم برضا الأهل والجمهور. كما أن الشهرة المبكرة قد ترتبط باضطرابات نفسية، مثل: القلق، والاكتئاب، واضطرابات الأكل، وهو ما ينطبق على أطفال مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يدفعون إلى دائرة الأضواء دون استعداد نفسي، فيتحول النجاح اللحظي إلى عبء يترك آثاراً طويلة المدى.
وينصح فاضل أولياء الأمور بالوعي والتوازن، مؤكداً أن “الشهرة قد تكون جزءاً من حياة الطفل، لكنها لا يجب أن تبتلع حياته أو تحرمه من اللعب والاختلاط بأقرانه”.
ويرى أن “الأطفال المعرضين لضغوط الشهرة يحتاجون إلى برامج علاجية أو جلسات بإشراف مختصين لإعادة إدماجهم في بيئة طبيعية”.
كما يلفت إلى أن “استغلال الأطفال في المحتوى التجاري أو الإعلانات يرقى إلى عمالة الأطفال؛ لأن العمل لا يقتصر على الجهد البدني، بل يشمل التمثيل والظهور الإعلامي مقابل أجر، وهو ما يجرمه القانون المصري الذي يحظر تشغيل من هم دون الخامسة عشرة، أو تحميلهم أعباء تضر بصحتهم وتعليمهم، غير أن التحدي يبقى في التطبيق الفعلي لهذه النصوص على واقع المنصات الرقمية”.
استغلال سلبي
من جهتها، تؤكد الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، رفضها القاطع لاستخدام الأطفال بأي صورة، سواء لأغراض تجارية أو لتحقيق “تريند” على مواقع التواصل الاجتماعي.
وترى أن “السلوك الذي قامت به الطفلة هايدي طبيعي وشائع بين الأطفال في المجتمع المصري، لكنه لا يستحق هذا الحجم من التغطية والاحتفاء”.
وتشير إلى أن “منصات التواصل الاجتماعي تخلق حالة من “اللا يقين”، إذ يصعب التمييز بين الصادق والمختلق، ما يجعلها مصدراً للتضليل والاستهلاك غير المبرر لصور ومشاهد غالباً ما تكون مضللة أكثر من كونها حقيقية”.
الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس
الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس
وتوضح أن “الواقعة تحمل أضراراً مجتمعية مباشرة؛ فهي قد تدفع الأطفال إلى تقليد السلوكيات المصطنعة بحثاً عن الشهرة، بما يفرغ القيم من مضمونها وينتج وعياً زائفاً بمفهوم مساعدة الغير. فعملية التنشئة تقوم إلى حد كبير على التقليد، ما يعني أن كثيراً من الأطفال قد يتأثرون بما شاهدوه من شهرة حصلت عليها الطفلة. ومع أن هناك جانباً إيجابياً محدوداً يتمثل في تحفيز بعض الأطفال على مساعدة الفقراء، إلا أن الأثر السلبي أوسع وأخطر”.
وتختتم بالتأكيد على أن “ما جرى مثال واضح على الاستغلال السلبي للمنصات الاجتماعية، وعلى خطورة تحويل الأطفال إلى أدوات دعائية أو مواد للتريند، وهو ما ينتج أنماطاً مشوهة من الوعي والسلوك داخل المجتمع”.
في النهاية، تكشف قصة “طفلة الشيبسي” عن الوجه القاسي لعالم المنصات الاجتماعية، حيث يتحول الفعل البريء إلى وقود للتريند، وتتحول البراءة إلى سلعة تستهلك في الإعلانات والدعاية.
وبينما يحذر الأطباء من اغتيال الطفولة تحت ضغط الأضواء، ويرى علماء الاجتماع أن هذه الظواهر تفرغ القيم من معناها وتنتج وعياً زائفاً، تبقى التساؤلات مفتوحة: من يحمي الأطفال من شهرة لم يختاروها؟ ومن يضمن ألا يلتهم “التريند” براءتهم ويتركهم مثقلين بآثار نفسية واجتماعية تفوق أعمارهم؟
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار