لم تَغِب صُور حافلات المستوطَنات المحترقة عن ذاكرة الفلسطينيين، وإنْ غابت لسنوات عن الأرض بفعل اختفاء العمليات الفدائية والعبوات الناسفة، لكنها عادت أمس لتَرسم صباحاً مختلفاً للمشهد المقاوم في فلسطين، والذي يتّسع يوماً بعد آخر، مُنذراً بمرحلة جديدة ستكون لها تداعياتها الميدانية. العملية المزدوجة التي نُفّذت بإتقان، لم تَرِد، على ما بدا، حتى في أسوأ توقّعات المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، التي ظهرت مذهولة، كما المستوطنون، إزاء الهجوم، نظراً إلى افتقارها إلى أيّ معلومات مسبقة حوله، ما يعني صفعة استخبارية لها. أمّا الصفعة الثانية فكانت لحالة التأهّب والاستنفار المفروضة، والتي لم تمنع وصول المنفّذ إلى محطّة الحافلات في القدس الغربية، حيث عمد إلى زرْع حقيبة مفخّخة ومن ثمّ تفجيرها عن بعد، قبل أن ينتقل إلى مكان آخر ويترك دراجة مفخّخة على جانب الطريق ويفجّرها عن بُعد كذلك.
عودة هذا النوع من العمليات المزدوجة، والذي ارتبط بشكل وثيق بالانتفاضة الثانية كأحد أبرز أعمال المقاومة آنذاك، تضع المنظومة الإسرائيلية الأمنية في مأزق كبير، خصوصاً أن هكذا هجمات لا يمكن أن تُنفَّذ بشكل فردي، نظراً إلى ما تتطلّبه من رصد ومراقبة وتصنيع ونقل وتنفيذ، وبالتالي تبدو الحالة أقرب إلى مجموعة منظَّمة على قدْر عال من الحرص والتنظيم والسرّية، لم تستطع إسرائيل الوصول إلى أيّ خيط فيها، في ظلّ انسحاب المنفّذ من المكان بسلام. وعلى رغم أن العملية خلّفت قتيلاً واحداً، وأصابت 47 بينهم 3 في حال الخطر، إلّا أنها ألقت بظلالها الثقيلة على المستوطِنين والمؤسّسة الأمنية، كونها تمثّل إعلاناً عن ميلاد خلية مقدسية جديدة، يمكن أن تكون قد أعدّت نفسها لتنفيذ هجمات أخرى. وفي هذا الإطار، أكّد وزير الأمن الداخلي، عومر بارليف، أن «ما حدث في القدس المحتلّة هو هجوم مركّب ومعقّد في ساحتَين، يبدو أنه نتيجة بنية تحتية منظَّمة».
وما يدعم هذا التحليل، أن العبوتَين اللتَين تمّ تفجيرهما متشابهتان من حيث طريقة التصنيع والمكوّنات، وقد تمّ تفعيلهما عن بُعد من خلال هاتف محمول. كما تَبيّن أنهما كانتا مملوءتَين بالكُرات المعدنية الصغيرة والمسامير، بهدف إيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى والجرحى. وبحسب مصادر عبرية، فإن «خطورة عملية القدس لا تنبع فقط من كثرة الضحايا وعودة الخوف إلى الشوارع، ولكن من القدرة على إنتاج عبوات ناسفة فعّالة، وإدخالها في “مناطق خضراء”، وتفجيرها عن بُعد في الأماكن المزدحمة». وفي أعقاب الهجوم، أفادت مصادر عبرية بأن شرطة الاحتلال اكتشفت عبوة ناسفة على مسار القطار الاستيطاني في القدس المحتلّة ليل الثلاثاء – الأربعاء، في المنطقة نفسها التي وقع فيها هجوم صباح الأربعاء.
وإذ أعادت العملية إلى ذاكرة المستوطِنين وقادة الاحتلال، مشاهد الانتفاضة الثانية التي امتازت بالعمليات الاستشهادية وتفخيخ الحافلات، واستدعت سريعاً دعوات إلى القتْل الجماعي، مثلما طالب به النائب المتطرّف المرشّح لحقيبة الأمن الداخلي في حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة، إيتمار بن غفير، الذي دعا إلى إعادة تفعيل سياسة الاغتيالات، وإلى اجتياح الضفة الغربية، فقد وجّه الإعلام العبري أصابع الاتّهام إلى حركة «حماس»، إذ قال الصحافي، أور هيلر، إن «هذه عملية منسَّقة ومزدوجة، ومخطَّطة جيداً، والمشتبه الرئيس فيها هو حركة حماس في غزة»، بينما اعتبر الصحافي في «معاريف»، تال ليف رام، أن «طبيعة التفجيرات في القدس تشير بشكل لا لبس فيه إلى ضلوع حماس فيها»، وهو اتّهام، في حال تَبنّته دولة الاحتلال وأرادت تأسيس خطوات أمنية عسكرية عليه، سيعني الدخول في مرحلة أكثر خطورة، خصوصاً في قطاع غزة. ولعلّ ذلك هو ما دفع فصائل المقاومة في القطاع إلى تعزيز إجراءاتها الأمنية، علماً أنها بدأت منذ فترة مُضاعفة استعداداتها لأيّ مواجهة قد يَدفع إليها العدو، في ظلّ تصاعُد التهديدات الإسرائيلية بتغيير الاستراتيجية المتّبَعة حيال غزة.
أعادت العملية إلى ذاكرة المستوطِنين وقادة الاحتلال مشاهد الانتفاضة الثانية
وتأتي عملية القدس بعد سنوات من غياب هذا الشكل من العمل المقاوم في فلسطين خلال العقد الأخير. وكانت آخر تلك العمليات سُجّلت عام 2016، عندما أقدم الاستشهادي عبد الحميد أبو سرور (من بيت لحم) على وضْع عبوة ناسفة محلّية الصنع في حافلة تابعة لشركة «إيجد» في القدس المحتلّة، ما أدّى إلى إصابة 21 مستوطِناً واحتراق الحافلة بالكامل. وفي عام 2011، نجح الأسير المقدسي، إسحاق عرفة، في تفجير حافلة إسرائيلية، متسبّباً بمقتل مستوطِنة وإصابة أكثر من 60 آخرين بجروح مختلفة، وكلتا العمليتَين المذكورتَين تبنّتهما «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس». أمّا تل أبيب، فقد شهدت تفجيراً مماثلاً عام 2012 بالتزامن مع العدوان على قطاع غزة آنذاك، نفّذته خلية من المقاومين بقيادة الأسير أحمد موسى، والشهيد محمد عاصي من بلدة بيت لقيا قرب رام الله، والأسير محمد عبد الغفار مفارجة من سكّان مدينة الطيبة.
وعلى خلفية عودة هذه الهجمات بقوّة، أُعلن رفْع حالة التأهّب في دولة الاحتلال إلى مستوى ما قبل الأعلى، فيما أفيدَ عن تحذيرات من عمليات إضافية من بينها حوادث خطف. وفيما شرعت قوات الاحتلال في تشديد عمليات التفتيش والتدقيق على الحواجز المؤدّية إلى مدينة القدس، بدأ رئيس الحكومة الإسرائيلية إجراء مشاورات أمنية لتدارس الوضع. وفي انتظار ما ستُقدِم عليه سلطات العدو من قرارات، يبدو أكيداً أن العملية المزدوجة في القدس تضعها أمام سيناريوات معقّدة وتحدّيات غير سهلة، متعلّقة بفهْم حيثيات الهجوم والجهات المسؤولة عنه والمموّلة له، وما إن كان مؤشّراً إلى نمط سيتكرّر مستقبلاً أم أنه حدث عابر، وطبيعة الردّ وحجمه في حال تَبيّن ارتباطه بأحد فصائل المقاومة وتحديداً «حماس»، وقياس استعداد إسرائيل لنقل المواجهة إلى قطاع غزة، سواء بشنّ عمليات اغتيال مركّزة أو قصف، قد تتدحرج جميعها إلى مواجهة مفتوحة.