ابراهيم الأمين
لا يزال ملف العلاقات اللبنانية – السورية يشغل حيّزاً أساسياً من اهتمام المسؤولين في لبنان، وسط مؤشرات إلى أنّ المشهد أكثر تعقيداً سياسياً مما عكسته الاتصالات الأخيرة. ويعود ذلك إلى أنّ دمشق لا ترتّب أولوياتها وفقاً للرؤية اللبنانية، بل تتعامل مع هذا الملف على أعلى المستويات انطلاقاً مما تعتبره مناسباً لمصالحها الخاصة. غير أنّ ما يلفت انتباه الجانب اللبناني راهناً، هو المكانة المتقدّمة التي توليها السلطات السورية الجديدة لملف المحكومين والموقوفين السوريين في السجون اللبنانية.
وكشف مصدر مطّلع لـ«الأخبار» أنّ الاجتماعات التي عُقدت خلال الأشهر الثلاثة الماضية تناولت مختلف الملفات، إلا أنّ النتائج العملية انحصرت بالجانب الأمني المتّصل بضبط الحدود، فيما بقيت سائر القضايا عالقة. وفي هذا السياق، لا يزال البحث قائماً حول الصيغة الأنسب لإنجاز معاهدة قضائية بين البلدين، تتيح لسوريا استرداد جميع الموقوفين السوريين في لبنان.
وأوضحت المصادر أن الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني، أوضحا صراحة لنائب رئيس الحكومة طارق متري أولويات دمشق، مؤكّدين بشكل صريح ضرورة معالجة ملف الموقوفين. بل عبّرا أمام متري عن «استغرابهما» لعدم قدرة لبنان على إيجاد مخرج قانوني لهذه المسألة، ما أدى إلى انطلاق حملة اتُهم فيها وزير العدل عادل نصار بتعمّد العرقلة لأسباب سياسية.
فيما أكّد نصار لرئيسي الجمهورية والحكومة جوزف عون ونواف سلام أنّه يتصرّف ضمن صلاحياته التي لا تسمح له بإصدار قرار بالإفراج عن أي سجين، مشدداً على أنّه لا يمانع التوصّل سريعاً إلى تسوية، لكنه يشدد، كوزير للعدل ومعه الجسم القضائي، على أنّ أي تسوية يجب أن تكون متوافقة مع الأطر القانونية المعمول بها.
والجديد أن سوريا وافقت، وبعد تأخير استمر لعدة شهور، على اعتماد السفير اللبناني الجديد في دمشق، هنري قسطون الذي استقبله الشيباني وتناول معه الملفات العالقة بين البلدين، كما استقبله لاحقاً الرئيس السوري أحمد الشرع وتسلّم منه أوراق اعتماده.
ونقل قسطون إلى المسؤولين في بيروت محضر اجتماعه مع الرئيس السوري، وكان أبرز ما لفت المعنيين في رئاستي الجمهورية والحكومة، أنّ الشرع تحدّث بلهجة حازمة، مؤكّداً أنّ معالجة ملف الموقوفين والسجناء تمثل أولوية مطلقة لدى دمشق، وطلب من السفير أن يبلّغ المسؤولين اللبنانيين أنّ هذه الخطوة هي المدخل الأساسي، والمفتاح لمعالجة سائر القضايا العالقة بين البلدين.
وترافقت رسالة الرئيس الشرع عبر السفير مع موجة اتصالات أجرتها واشنطن والرياض والدوحة، مع المسؤولين اللبنانيين، مع تبنّي العواصم الثلاث وجهة النظر السورية. كما بحث السفير الفرنسي في بيروت، هيرفي ماغرو، مع رئيس الجمهورية، المشروع الفرنسي لإدارة حوار لبناني – سوري حول الحدود. إلا أنّ الرئيس عون شدّد على «ضرورة معالجة ملف الموقوفين السوريين في لبنان قبل أي خطوة أخرى، لأن دمشق لا ترغب في بحث أي مسألة قبل إنجاز هذا الملف».
ضغط أميركي – أوروبي – خليجي على عون لحل سريع، والمشروع الجديد يمنح الحكومة صلاحية إطلاق المحكومين والموقوفين معاً
الضغط الخارجي ورسالة الرئيس السوري دفعا عون للقيام باتصالات داخلية، إذ لاحظ وجود نوع من التباين بين نائب رئيس الحكومة ووزير العدل، فدعا جميع المعنيين بالملف إلى اجتماع عُقد الأسبوع الماضي في بعبدا.
وأوضح عون خلال الاجتماع أنّ هذا الملف يجب إنجازه بأسرع وقت ممكن، مشيراً إلى الاتصالات الخارجية الجارية بشأنه، ومؤكداً استعداده لتحمّل المسؤولية السياسية عن أي قرار، في حال خشية أي طرف التعرض لهجوم سياسي نتيجة الملف، في إشارة واضحة إلى الوزير نصار الذي لم يبدِ أي معارضة للإسراع في إنجاز الملف، نافياً أنّ يكون طلب تعديل أي بند في مسوّدة الاتفاق.
وفهم الحاضرون أنّ الترتيبات الخاصة بعقد قمة لبنانية – سورية، سواء في دمشق أو بيروت، باتت مرهونة بمعالجة هذا الملف، إضافة إلى المسألة المتعلقة بالحدود البرية، حيث لا تزال دمشق تفضّل أن تتم الأمور عبر لجنة ثنائية من دون الحاجة إلى الوساطة الفرنسية.
وفي سياق النقاش، أشار الوزير نصار إلى ضرورة الفصل بين المحكومين والملاحقين أمام المحاكم، لكن يبدو أنّ رئيس الجمهورية يميل إلى دعم وجهة نظر متري في اعتماد معالجة شاملة للملف، على قاعدة إعداد مسوّدة معاهدة لا تحتاج إلى عرضها على مجلس النواب.
وعندما أثار أحد الحاضرين ملاحظة مفادها أنّ إطلاق لبنان لجميع الموقوفين السوريين، والبالغ عددهم نحو 2600 شخص بين محكوم وموقوف، قد يؤثر في ملف السجناء اللبنانيين، أوضح الرئيس عون أنّه لا يعارض إعداد مشروع قانون للعفو العام. وأضاف أنّ القانون يمكن أن يتضمن مواد تميّز بين من يشملهم العفو بشكل مباشر، ومن يُخفّف حكمهم، ما يتيح معالجة مشكلة الاكتظاظ في السجون، إضافة إلى تسهيل حل الملفات العالقة أمام القضاء الذي يفتقر إلى الموارد البشرية الكافية لإنجاز جميع الملفات دفعة واحدة.
«إنهم رفاق سلاح»
حتى وقت قريب، كان هناك في لبنان من لا يفهم إصرار السلطات السورية على إطلاق الموقوفين السوريين في لبنان، إلى أن حصل تطور مهم، عندما وافق الوفد السوري المفاوض على صيغة لتسليم السجناء، مع استثناء من أدين منهم بقتل لبنانيين، سواء مدنيين أو عسكريين. لكن في الاجتماع اللاحق، تراجع السوريون عن هذا الموقف.
وأوضح وزير العدل السوري مظهر الويس لمسؤول لبناني بارز «أننا نريد معالجة الملف، وعندما نتحدث عن ملف السجناء، لا نقصد من تورط في جرائم قتل ذات خلفية جنائية. وإذا كان لبنان يعتبر نحو 170 من المسجونين مدانين بأعمال إرهابية، فإن سوريا تنظر إليهم كمعتقلين سياسيين في لبنان». وأضاف: «هؤلاء رفاق سلاح، ولن نتخلى عنهم، ونحن مستعدون لتسلم جميع الموقوفين، مع تركيزنا على هؤلاء، لأننا نعتبر أنهم أوقفوا أو حوكموا بسبب تأييدهم للثورة السورية».
وفي دمشق، أوضح مصدر سوري لـ«الأخبار» أنّ الموافقة الأولى «كانت ذات بُعد تقني، لكن بعد البحث تبيّن أنّ الهدف السياسي لم يتحقق». وأضاف أنّ وزير العدل شخصياً «لديه أصدقاء ورفاق بين الموجودين حالياً في السجون اللبنانية».
وأشار المصدر السوري إلى أنّ «ما لا يعرفه الجانب اللبناني، أنّ الويس ليس موظفاً إدارياً فحسب، بل يُعد أحد أبرز قيادات هيئة تحرير الشام، وله تأثير كبير على القرار في سوريا». ولفت إلى أنّ «الوزير كان معتقلاً في سجون النظام السابق، وهو من دير الزور (مواليد 1980)، وكان قائداً عسكرياً قبل أن يشغل منصب رئيس الهيئة الشرعية في التنظيم، ثم عضواً في مجلس شورى المجاهدين، ليصبح أخيراً أحد أبرز فقهاء هيئة تحرير الشام». وأضاف المصدر أنّ «الرئيس الشرع يولي اهتماماً كبيراً لرأي وزير العدل في مسائل عدة».
تخفيف العقوبة والعفو الشامل
من بين الأفكار المطروحة لمعالجة الملف، ثمة اقتراح نوقش في القصر الجمهوري وفي اجتماعات جانبية، إمكان تخفيف مدة محكومية عدد كبير من السجناء الذين يعانون أوضاعاً صحية صعبة، أو قضوا أكثر من عشر سنوات قيد التوقيف. ويُنظر إلى هذا الإجراء كأساس محتمل لأي قانون عفو يشمل جميع الموجودين في السجون اللبنانية.
أما بالنسبة إلى السوريين، فالنقاش الحالي يتركز على صياغة مادة في معاهدة لبنانية – سورية تقضي بأن تتسلم السلطات السورية الموقوفين من لبنان لمتابعة ملفاتهم، سواء لإكمال مدة محكوميتهم في السجون السورية أو لاستكمال محاكمتهم هناك.
إلا أنّ الجانب السوري يرغب في اعتماد نص مشابه لاتفاقية سابقة مع باكستان، منحت الحكومة الباكستانية الحق في التصرف وفقاً لقوانينها بشأن الوضع القانوني للموقوف أو المحكوم بعد استرداده، بما في ذلك إصدار عفو عام عنه. وهذه المادة تحولت إلى نقطة خلاف مع وزير العدل اللبناني الذي يرى أنّ لبنان لا يمكنه التنازل عن أحكام صادرة عن القضاء إلا عبر قانون عفو، وبالتالي فإن إطلاق سراح الجميع من دون احترام القرارات القضائية يتطلب إحالة الأمر برمته إلى مجلس النواب.
لكن الرئيس عون وافق على وجهة نظر نائب رئيس الحكومة طارق متري وآخرين، اعتبروا أنّ لبنان ليس مضطراً إلى إصدار عفو عن جميع هؤلاء، بل يمكنه تسليمهم إلى الدولة السورية، مع تحميل الحكومة السورية المسؤولية لاحقاً عن كيفية التعامل معهم، سواء بالإبقاء عليهم في السجون، أو تخفيض مدة سجنهم مع احتساب السنوات التي أمضوها في السجون اللبنانية، أو حتى اللجوء إلى عفو عام أو خاص تصدره السلطات السورية وفقاً لقوانينها الخاصة، بغض النظر عن توصيفهم السياسي أو الجنائي.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
