إسماعيل مروة
العمل قيمة كبرى، والعامل هو الرمز الذي يتم تناوله لرفع قيمة العمل، ولو نظرنا فإن كل الناس من العمال والعاملين، فما من و احد لا يعمل، غنياً كان أو فقيراً، ومن أي مكان كان، ولكنه مع بداية النهضة الحديثة وانتشار الأفكار الجديدة، والأحزاب اليسارية التي وقفت في مواجهة رأس المال، كان الشعار في رفع قيمة العمل والعمال، وصرنا نقرأ أدباً شعرياً وقصصياً يتوجه بشكل وعظي مباشر إلى العمال، وقد يكون موجهاً من مؤدلجين، أو من شعراء ينتمون إلى الطبقات المجتمعية العالية.. وتم اعتماد يوم الأول من أيار ليكون عيداً للعمال يتم الاحتفاء فيه بالعمال، وهذا اليوم كان مناسبة مهمة للأحزاب اليسارية لتأكيد تواصلها مع الطبقات العمالية، لأن هذه الطبقة هي التي تحمل الدول والأحزاب على عاتقها.
احتفاء غير عادي
الاحتفاء الأكبر كان في أوائل القرن العشرين مع الثورة البلشفية التي اعتمدت الطبقة العاملة، وتحول عيد العمال إلى المناسبة الأكثر أهمية بين الأعياد، وكان الزعماء والمسؤولون يجهزون الاحتفالات والمشروعات الحيوية الكبرى، ليتم الاحتفال والافتتاح في الأول من أيار، ولتكون القيادة اليسارية المنحازة، بطبيعة المصلحة، إلى العمال معهم في هذا اليوم، وفيه يتم تكريم العمال وأبطال الإنتاج، وما يتعلق بالعمل والعمال، وفي البلدان التي انحازت للفكر اليساري في مرحلة البناء كان الاحتفاء بالعامل وعيده في أوجه، بل إن عيد العمال لا يقل بهجة وزينات عندهم عن العيد الوطني، وقد شهدنا في سورية في الستينيات والثمانينيات من القرن العشرين الاحتفال الأهم بعيد العمال، وكنا نقابل العمال في المعامل المعروفة وهم يستعدون لهذا الاحتفال واللقاء مع القيادات السياسية والحزبية، وهذه الاحتفالات تنقل على الهواء مباشرة، أو في برامج خاصة عن العمال، من معامل النسيج والكبريت والبرادات وسواها من المعامل التي قامت عليها النهضة الاقتصادية السورية في مرحلة من المراحل، وبقي هذا اليوم العالمي للعامل السوري وغيره، مناسبة للاحتفال والاحتفاء، مع أن تحوّل الناس كلهم إلى عمّال وربما إلى مرحلة اقتصادية أقل أفقد اليوم الكثير من البهجة وذهبت بهجة الأناشيد عمال من أجل الثورة.
والعامل هو الحامل الحقيقي للفكر والثورات والنهضات، وعلى كتفيه وساعديه يمكن أن تقوم البلدان.
العامل في الشعر
هناك أشعار كتبها شعراء من المشاهير في العامل وإعلاء شأنه ومكانته، وأكثر هذه الأشعار اتسمت بالعاطفية والخطابية التي تفتقد الحياة، فكما كانت قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي الشهيرة: أيها العمال أفنوا العمر كداً واكتسابا، فهي قصيدة موجهة للعمال بشكل وعظي تطلب منهم العمل والمتابعة دوماً دون توقف، وتطلب منهم أن يكونوا صالحين طيبين، وأن يتركوا متع الحياة كلها، وأن يخبئوا قرشهم الأبيض إلى يومهم الأسود، وهذه القصيدة على ذيوعها وانتشارها، إلا أنها قصيدة تدخل في باب النظم الذي يتوجه برسالة تربوية توجيهية:
قصيدة «أيها العمال» للشاعر أحمد شوقي
أَيُّها العُمّالُ أَفنوا العُمرَ كَدّاً وَاِكتِسابا
وَاِعمُروا الأَرضَ فَلَولا سَعيُكُم أَمسَت يَبابا
إِنَّ لي نُصحاً إِلَيكُم إِن أَذِنتُم وَعِتابا
في زَمانٍ غَبِيَ الناصِحُ فيهِ أَو تَغابى
أَينَ أَنتُم مِن جُدودٍ خَلَّدوا هَذا التُرابا
قَلَّدوهُ الأَثَرَ المُعجِزَ وَالفَنَّ العُجابا
وَكَسَوهُ أَبَدَ الدَهرِ مِنَ الفَخرِ ثِيابا
أَتقَنوا الصَنعَةَ حَتّى أَخَذوا الخُلدَ اِغتِصابا
إِنَّ لِلمُتقِنِ عِندَ اللَهِ وَالناسِ ثَوابا
أَتقِنوا يُحبِبكُمُ اللَهُ وَيَرفَعكُم جَنابا
فَكُنِ الحُرَّ اِختِياراً وَكُنِ الحُرَّ اِنتِخابا
إِنَّ لِلقَومِ لَعَيناً لَيسَ تَألوكَ اِرتِقابا
فَتَوَقَّع أَن يَقولوا مَن عَنِ العُمّالِ نابا
لَيسَ بِالأَمرِ جَديراً كُلُّ مَن أَلقى خِطابا
أَو سَخا بِالمالِ أَو قَدمَ جاهاً وَاِنتِسابا
أَو رَأى أُمِّيَّةً فَاِختَلَب الجَهلَ اِختِلابا
فَتَخَيَّر كُلَّ مَن شَببَ عَلى الصِدقِ وَشابا
وَاِذكُرِ الأَنصارَ بِالأَمسِ وَلا تَنسَ الصِحابا
أَيُّها الغادونَ كَالنَحلِ اِرتِياداً وَطِلابا
في بُكورِ الطَيرِ لِلرِزقِ مَجيئاً وَذَهابا
اِطلُبوا الحَقَّ بِرِفقٍ وَاِجعَلوا الواجِبَ دابا
وَاِستَقيموا يَفتَحِ اللَهُ لَكُم باباً فَبابا
وللشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري قصيدة قالها في عيد العمال 1959 وذلك في أوج الفكر الثوري العمالي، وقصيدة الجواهري، مع أنها عاطفية وخطابية، إلا أن توجه الجواهري اليساري جعلها قصيدة موقف وقضية على غير ما جاءت قصيدة شوقي، وعند قراءة قصيدة الجواهري نلمس ذلك المشترك بين الشاعر والطبقة العاملة التي يتحدث عنها والموازنة واضحة بينه وبينهم، ودعوته ليست قائمة على الوداعة والهدوء، وإنما في حديث مهم عن حقوقهم، وضرورة أن يسعى واحدهم لأخذ حقوقه:
قصيدة محمد مهدي الجواهري
بمناسبة عيد العمال اخترنا لكم قصيدة كتبها الشاعر العراقي الراحل /محمد مهدي الجواهري نشرت عام 1959.
حيَّيتُ «أيَّاراً» بعطر شذاتي
وخَصَصْـتُه بالمحض من نَفَحاتي
وسقيتهُ نبعَ القصيد ِ مضرَّجاً
كدماءِ أحرار ٍ به عَطِرات ِ
وشددتُ أوتاري وقلتُ أظنها
ستَشُدُّ أيَّاراً على نغماتي
حيَّيتُ شهراً فكرهُ من فكرتي
فيما يخط، وذاتُه من ذاتي
حيَّيتُه وكأنني بهِباته
أُزجي التحايا الغرَّ لا بهباتي
من ليل «أيَّار» نسيمُ عواطفي،
ومن النَّهار وقَدْحه ِ جَمَراتي
وبوحي كدح ِ الكادحينَ رسالتي
وعلى يديهِ تنزَّلَتْ آياتي
مارستُ حُلْوَ الحادثات ِ ومُرَّها
ونعِمتُ بالآلام ِ واللَّذات ِ
ودرجتُ في دَرْبِ الحياة تجرُّني
أنَّى تشاءُ، طليقةً، خطواتي
فوحقِّ «أيَّار» وعمَّال ٍ به …
راياتُهم في عيدهم راياتي
يا أيُّها العُمَّالُ سُمرُ زنودهم
صَفَحاتُ تأريخ ، وسِفرُ حياة ِ
يا أيُّها الواعون أرهَفَ حِسَّهم
صَخَبُ الحديد، وضجَّةُ الآلات ِ
يا أيُّها العُمَّالُ بثَّ مُزامل،
لكمُ يكافح دهرّه بأناة ِ
منكم .. رفاقي في الكفاح رفاقُكم
وعُداتُكُم، وسطَ الكفاح، عُداتي
أنا عاملٌ بالفكر أُعمِل مِعولي
في صخرةٍ فأُحيلُها لفُتات ِ
في الكفِّ مِطرقتي أفُلُّ بحدّها
أصلابَ أوغادٍ، وهامَ طغاة ِ
ستونَ عاماً خضتها كمَخاضكم،
لججَ الحياة عنيفةَ الغـَـمَرات ِ
يا عيدَ «أيَّار» وكم من كُربة
مرَّت بأيَّار وكم مأساة
علَمٌ يرِفُّ عليك صاغت لونَه
حُمْرُ المجازر ِ من دم ٍ أشتات ِ
من فتية ٍ كَسَنا الفداء، وصبية
كدم الشهيد، صوامت ٍ خفرات ِ
فاشمخ برفرفة الخفوق، فإِنَّه
لا بدَّ خفَّاقٌ لستِّ جهات ِ
يا أيُّها العُمَّالُ صفحَ مسامح
عمَّا تجيشُ ببثّه خطَراتي
أنا لا أثيرُ ظُنونَكم، لكنْ فتىً
حرٌّ يحبُّ حرائرَ الصَّرخات ِ
ما انفَكَّ تِنِّينُ التحكّمِ قائماً،
وتقاسمُ الأرباح في الشركات ِ
أنتم جنودُ الكون، طوعُ أكفِّكمُ
خيرُ الحصون ِ وأمنعُ الثكنات ِ
يا أيُّها العُمَّالُ لُموا شملَكمْ
وتوزَّعوا فرقاً على الوَحَدات ِ
وعلى النهج نفسه سار أكثر الشعراء في الحديث عن العمل والعمال ويظهر أن الاحتفاء بالعمل ويوم العمال أصبح في مرحلة لازمة، ولا يتجاهله شاعر مهما كانت مكانته لاعتبارات كثيرة، وفي هذا السياق والتوجه نظم الشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان نشيداً عن العمال، وهو صاحب الأناشيد اللاهبة، وها هو يخصّ العمال بنشيد لكنه ينزل ضمن الخانة نفسها، الخطابية والوعظية:
مجد البلاد
بالشباب العاملين
والاجتهاد
للعلى نهج معين
هو إذن
واحبوا الثمن
عز الوطن
مدى السنين
أن العمل
يحييى الأمل
سر الوجود
فيه نسود
في العالمين
وعلى هذا المنوال يمضي النشيد يدعو إلى العمل، ويقدم الموعظة للعمال، ويدعوهم إلى العمل والحفاظ على العمل كقيمة للحياة.
قصص العمال
تناول الشعراء عيد العمال والعامل وقيمة العمل بطريقة منبرية خطابية عاطفية، وربما سأل بعضهم نفسه عن جدوى مثل هذه الخطابات، فاختار بعضهم أن يروي عن عامل يعرفه، ولو قرأنا مثل هذه القصائد ندرك أهميتها، وذكاء أصحابها في اختيار حالة إن كانت مأساوية أو سعيدة ليقدم نموذجاً عن العمل بعيداً عن الرؤى الحالمة، والشاعر الشهيد الفلسطيني عبد الرحيم محمود يقف أمام صورة مؤلمة لعامل ميت على الرصيف فيقول قصيدته: رثاء حمّال
قد عشت في الناس غريباً وها
قدمتّ بين الناس موت الغريب
والناس مذ كانوا ذوي قسوة
وليس للبائس فيهم نصيب
لو كنت في حبلك شناقهم
لو لولوا حزناً وشقوا الجيوب
أو كنت من سلك رزّاقهم
لقام عند السّل ألفا خطيب
لكنك الحمّال لم يطمعوا
فيك ولم يخشوا أذاك الرهيب
رغيفك الطاهر غمسته
من عرقٍ زاك ودمع صبيب
أظن أن هذه الأبيات المختارة لعبد الرحيم محمود أصابت الحقيقة في قراءة العامل وواقعه، وفي نظرة الناس إليه، فهي صورة مفعجعة، لكنها تصل حد الإبهار، ويمكن أن تعطي أثراً يفوق المعلقات الخطابية بمرات كثيرة.
وفي قصيدة غير متداولة للشاعر شوقي بغدادي يقدم صورة رائعة لعامل مطبعة، عرف بمرض الشاعر فجاء يزوره لتكون صورة رائعة عن العامل، العامل والزهر:
كنت مريضاً متعباً
أقرأ في فتور
وكانت الشمس على الجدار والسرير
ودُق بابي
واذا بعائد يزور
يحمل في يديه طاقة من الزهور
قال: صباح الخير
ومدّ كفاً صلبة
وساعداً ثقيل
ثم انطوى خجلان أن يخالف الأصول
وكانت الغرفة في نصاعة الغسيل
تربكه عن قصده والمقعد الأنيق
حتى اذا دعوته استراح بعد ضيق
ولملم الثوب البسيط حوله وقال:
ما يشبه الدعاء
ثم سأل السؤال:
كيف تراك الآن؟
واستراح للجواب
وكنت لا أعرفه من قبل في الأصحاب
سألته عن اسمه
فقال لي: إمام
أعمل في مطبعة
وأخدم السلام
همسها مبتسماً
فهاجني ابتسام
سيرياهوم نيوز1-الوطن