المهندس نضال رشيد بكور
يُمثل عيد المولد النبوي الشريف حدثاً يتجاوز حدود الاحتفال الطقسي ليغدو مناسبة فلسفية عميقة تستدعي التأمل في علاقة الإنسان بالزمن والقدوة والمعنى. فهو ليس مجرد ذكرى لولادة نبيٍّ عظيم غيّر مجرى التاريخ
بل هو لحظة وعي يتجدد فيها حضور القيم الكبرى التي جاء بها النبي محمد ﷺ ، قيم الرحمة والعدل والحرية والكرامة الإنسانية.
من الناحية الفلسفية يُعتبر الاحتفال بالمولد النبوي فعلاً رمزياً يُعيد وصل الإنسان بمصدر المعنى في حياته. فالميلاد هنا ليس حدثاً ماضياً جامداً
بل رمزاً لبداية متجددة في الوعي الإنساني بداية تؤكد أن التاريخ ليس خطاً جامداً
بل هو حقل للتفاعل بين المثال والواقع.
إن استدعاء شخصية النبي في هذا السياق يُمثل استدعاءً لفكرة المثال الإنساني الكامل ، حيث يتجسد الكمال الأخلاقي في شخص بشري قابل للاقتداء.
على المستوى الجمعي يشكّل المولد النبوي لحظة اندماج بين الفرد والجماعة.
ففيه تتجسد الهوية الحضارية للأمة الإسلامية في أبهى صورها ، إذ يجتمع الناس حول رمز يوحّدهم في قيمهم وذاكرتهم ومرجعيتهم الأخلاقية.
وهنا يظهر البعد الفلسفي لمفهوم “الهوية”، التي لا تُبنى فقط على التاريخ السياسي أو الجغرافي بل على المعاني المشتركة التي يتقاسمها الناس …
فالمولد يُعيد تشكيل الوعي الجماعي حول محور القيم التي صاغها النبي ، مما يضفي على الانتماء بعداً يتجاوز حدود المكان والزمان.
غير أن الفلسفة تُحتم علينا ممارسة النقد أيضاً فالاحتفال بالمولد ، إن اقتصر على الطقوس السطحية دون إدراك جوهر الرسالة ، يصبح شكلاً بلا روح ، وذكرى بلا أثر.
فالمطلوب ليس مجرد تخليد لحظة تاريخية
بل تفعيل للقيم التي حملها النبي في الواقع المعاصر.
هنا يُطرح سؤال جوهري :
هل يُجسّد الاحتفال اليوم روح الإسلام في العدالة ، الرحمة ، والنهضة الفكرية؟
أم أنه انحرف أحياناً إلى مظاهر تُفرغ المناسبة من محتواها العميق؟
هذه التساؤلات تجعل من المولد فرصة لمراجعة الذات ، وتقييم مدى التزام الأفراد والجماعات بروح الرسالة المحمدية.
على الصعيد الإنساني الأوسع ، يحمل المولد النبوي رسالة كونية. فالنبي محمد ﷺ لم يكن رسولاً لأمة بعينها
بل كان حاملاً لمشروع تحرير الإنسان من عبودية المادة والهوى والظلم .
من هذا المنظور ، يمكن قراءة المولد كعيد إنساني عام ، يُذكر البشرية بأن رسالتها الحقيقية هي السعي نحو العدالة والرحمة والسلام.
وهنا يلتقي الفكر الديني بالفلسفة الإنسانية التي تبحث عن المعنى الأسمى للوجود.
في النهاية إن المولد النبوي ليس مجرد حدث تاريخي يُحتفى به في تقاويمنا ، بل هو تجربة فلسفية متجددة تدعونا إلى أن نُعيد اكتشاف ذواتنا في ضوء المثال المحمدي.
إنه مناسبة للتأمل في علاقتنا بالله ، وبالآخرة ، وبأنفسنا ، وفرصة لإحياء قيم إنسانية كبرى قادرة على مواجهة أزمات الحاضر وتحديات المستقبل.
فإذا استطعنا أن نرتقي بالاحتفال من مجرد ممارسة طقسية إلى وعي فلسفي حي
فإننا سنجعل من هذه الذكرى لحظة حقيقية لبداية جديدة في مسيرة الإنسان نحو الكمال الأخلاقي والحضاري.
كل عام وأنتم بألف خير
(أخبار سوريا الوطن-2)