يوسف فارس
في باحة مستشفى «الشفاء» غرب مدينة غزة، صُفّت العشرات من جثامين الشهداء التي وصلت تباعاً، فيما كان المئات من الفاقدين يودّعون أحباءهم. وما إن فرغت الساحة من اكتظاظ جثث الشهداء، حتى وصلت دفعة أخرى. غير أنّ ذلك المشهد لا يعكس إلا الجانب الصارخ للقتل الجماعي المتواصل؛ إذ تدور في أقسام المستشفى الداخلية مجزرة أقل ضجيجاً، حيث المئات من المصابين يفترشون الأرض بلا أدنى رعاية: شبّان ومسنّون، نساء ورجال، تنزف الدماء من جروحهم المفتوحة، بينما يعجز الطاقم الطبي عن متابعة هذا العدد الهائل منهم.
تمشي في المنطقة الحمراء، فتشعر وكأنك في فيلم رعب، وتسمع أصوات الأنين والنحيب، وتشاهد من تتحشرج روحه وهو ملقىَ من دون اهتمام. يقول مجاهد عمر، وهو مصاب من منتظري المساعدات: «نموت 100 مرة في اليوم. لا يوجد علاج ولا مسكّنات. منذ أسبوع وأنا أنتظر دوري في الحصول على صورة تلفزيون لتحديد عمق الإصابة. لا أحد يهتم، الأطباء يرون أنك تتنفّس فيتركونك. فهم يفضّلون إنقاذ من هم على وشك الموت. كل المصابين هنا ينتظرون الأجل».
وبالقرب من خيمة الاستقبال والطوارئ، دخل العشرات من مرضى الفشل الكلوي في موجة من البكاء بعدما أعلنت إدارة المستشفى وقف العمل بسبب شحّ الوقود. وتقول الحاجة أم حامد، وهي مريضة فشل كلوي مزمن، لـ«الأخبار»: «حياتنا مرتبطة بجلسة غسيل الكلى الأسبوعية.
كان من المفترض أن نُجري عملية الغسيل ثلاث مرات في الأسبوع، تم تقليصها بسبب تدمير أقسام الغسيل والضغط الكبير على الأجهزة إلى مرتين، ثم مرة واحدة، واليوم أوقفوا القسم تماماً بسبب شحّ الوقود اللازم لتشغيل المستشفى. ويعني ذلك حكماً جماعياً بالإعدام على المئات من مرضى الفشل الكلوي. هؤلاء سيموتون واحداً تلو الآخر من دون أن يسمع عن موتهم أحد».
أخرج الاحتلال عن الخدمة 3 مستشفيات في شمال القطاع ليتركّز الضغط على «المعمداني» و«الشفاء»
ووفقاً لمدير مستشفى «الشفاء»، محمد أبو سلمية، فإنّ «القطاع الطبي يعاني من عدّة أزمات حادة، أبرزها وأهمها هو الشحّ الحادّ في الوقود الذي بالكاد يكفي لتشغيل المستشفى لعدة ساعات». وأشار أبو سلمية، في إحاطة صحافية أمس، إلى «أننا أوقفنا العمل في قسم غسيل الكلى، وهناك أكثر من 350 مريضاً يواجهون خطر الموت. قرّرنا أن نخصّص الكمّية المتوافرة من الوقود لتشغيل قسم العناية المركّزة وقسم العمليات الجراحية، لأنّ هذه الأقسام لا يمكن الاستغناء عن الكهرباء فيها ولو لدقيقة واحدة. نتحدّث عن نقص كبير في الأدوية والمستهلكات الطبية وشحّ في وحدات الدم أيضاً». وأضاف: «خلال الأيام الماضية، كثّف جيش الاحتلال غاراته.
ولا يمكن لأي منظومة صحية التعامل مع هذا الكمّ الهائل من المصابين الذين يصلون كل دقيقة. فما بالكم بمنظومة قطاع غزة ومجمّع الشفاء الطبي المدمّر والذي يعمل بـ25% من طاقته؟ استطعنا ترميم 150 سريراً، لكن لدينا 300 جريح ومريض. نضع أحياناً مريضَين على سرير واحد، والبقية على الأرض وفي الطرقات. وإذا لم يصلنا الوقود، فسنضطر إلى إغلاق أقسام حيوية أخرى. وبذلك نحكم على 13 مريضاً، وعشرات الجرحى الذين يصلوننا ويحتاجون إلى عمليات طارئة، وعلى 15 طفلاً من الخدّج في الحضانات، بالموت المحقّق».
وفي المستشفى «الأهلي المعمداني» في البلدة القديمة في غزة، ليست الأمور أحسن حالاً، حيث يتكرّر مشهد المئات من الجرحى الممدّدين على الأرض وفي العراء، خصوصاً أنّ المناطق الشرقية لمدينة غزة، المحيطة بالمستشفى، وتحديداً أحياء الزيتون والتفاح والشجاعية، تشهد تصاعداً في وتيرة المجازر الجماعية. وعليه، تحوّل المستشفى إلى محطة وداع. أمّا الرعاية الصحية، فهي في أدنى مستوياتها أيضاً.
ويقول مصدر طبي لـ«الأخبار»: «أقسى ما يعيشه الأطباء هو الاضطرار الدائم للمفاضلة بين الحالات السيئة والأقل سوءاً. نقدّر طبّياً أنّ بعض الحالات يمكن أن نتمكّن من إنقاذ حياتها. ونتعامل معها على حساب حالات أخرى لا تتوافر الإمكانيات ولا الوقت لمعالجتها. هكذا، نحكم بكل أسف بالموت على أشخاص لو كانت هناك القدرة البشرية والإمكانيات لتمكنّا من إنقاذهم».
ويضيف: «اليوم المستشفى يتعرّض لضغط مهول. نتعامل مع المئات من الحالات الصعبة يومياً. والمعدّل اليومي للشهداء في شمال غزة 50. أما الجرحى، فيتجاوزون المئات، ولا يحصلون على حقّهم الكامل في الرعاية. ببساطة من نقدّر أنّ حالته متوسطة، يُجبر على الخروج حتى وإن كانت إصابته بالغة وصعبة، لأنّ هناك من هو أولى بالسرير والرعاية منه».
ومنذ بدأت عملية «مركبات جدعون»، أخرج جيش الاحتلال عن الخدمة ثلاث مستشفيات رئيسة في محافظة شمال القطاع، هي «العودة» و«الإندونيسي» و«كمال عدوان»، ليتركّز الضغط على «الأهلي المعمداني» و«الشفاء»، بالإضافة إلى عدد من المستشفيات الأهلية والخاصة التي تعمل بشكل رديف مع المستشفيات الحكومية. ولم تسمح سلطات الاحتلال منذ 40 يوماً بدخول الوقود اللازم لتشغيل تلك المستشفيات، فيما تواصل منه إدخال المستهلكات الطبّية إلى شمال وادي غزة.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار