حسني محلي
على الرغم من أهمية تركيا الجغرافية بالنسبة لمجمل الحسابات الإقليمية والدولية الروسية منها والأميركية لم يتصل الرئيسان ترامب أو بوتين بالرئيس إردوغان قبل وبعد قمّة آلاسكا التي بحث خلالها الرئيسان كلّ ما يخصّ العلاقات الروسية – الأميركية.
ومع أنّ الرئيس ترامب التقى زعماء كلّ من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفنلندا والأمين العامّ للحلف الأطلسي ومسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي في البيت الأبيض إلا أنه لم يدعُ الرئيس إردوغان إلى هذه القمّة التي أثارت سلسلة من النقاشات السياسية والإعلامية بسبب سلوك وتصرّفات الرئيس ترامب تجاه الحاضرين، بمن فيهم الرئيس الأوكراني زلينسكي.
ومع استمرار النقاش حول الخلافات بين واشنطن والعواصم الأوروبية فيما يتعلّق بتفاصيل الاتفاق الذي توصّل إليه ترامب مع الرئيس بوتين في لقاء ألاسكا فقد بات واضحاً أنّ ترامب قد فرض شروطه على أوروبا، كما هو سيجبر زيلنسكي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات المباشرة مع الرئيس بوتين.
ودفع ذلك العديد من الزعماء والأوساط السياسية للمراهنة على أسماء المدن المرشحة لاستضافة مثل هذه القمّة التي ستلحق بها زيارة ترامب إلى موسكو، وبعدها انعقاد القمة الثلاثية بين بوتين وترامب وزيلينسكي التي ستحسم كل النقاشات الخاصة بالأزمة الأوكرانية التي بات واضحاً أنها ستنتهي وفق الشروط الروسية.
وسيمنح ذلك الرئيسان ترامب وبوتين الفرصة للانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق الشامل لمعالجة كلّ الأزمات الإقليمية والدولية، وفي مقدّمتها غزة وبعدها مستقبل الوضع في سوريا ولبنان والتوتر الأميركي/ الإسرائيلي مع إيران، وإن انتهى وفق الاتفاق والتوافق الروسي – الأميركي فالحظ سيحالف ترامب وبوتين لمعالجة الأمور المعقّدة التي تخصّ العلاقات الروسية -الأميركية بأدقّ تفاصيلها التي تهمّ أنقرة بشكل مباشر أو غير مباشر.
كما هو الحال بالنسبة للدور التركي في سوريا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا إضافة إلى القوقاز وآسيا الوسطى، وحيث الاهتمامات الدينية والقومية والتاريخية التركية بهذه المناطق التي تحظى باهتمامات روسيا والصين ثم أميركا والغرب عموماً.
وأما عضوية تركيا في الحلف الأطلسي وعلاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن ووجودها في البحر الأسود وسيطرتها على المضائق، فهي المواضيع الأكثر أهمية بالنسبة للرئيسين ترامب وبوتين ولهما علاقات مميّزة مع الرئيس إردوغان، وقال عنه ترامب “إنني أحبه كثيراً وهو يلبّي كلّ ما أطلبه منه كما أنه يحبني أيضاً”.
في الوقت الذي يعرف فيه الجميع “عمق” العلاقات الشخصية بين بوتين وإردوغان والتقيا منذ 2015 بعد أن اعتذر إردوغان من بوتين بسبب إسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود السورية-التركية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
ومن دون أن يكون ذلك كافياً بالنسبة لبوتين كي يرشّح إسطنبول كمكان لقمّته مع زيلينسكي، ويتوقّع الكثيرون لهما أن يجتمعا في العاصمة الهنغارية بودابست. فلرئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان علاقات شخصية مميّزة مع الرئيسين بوتين وترامب، وهو الذي استضاف نتنياهو في بلاده متحدّياً بذلك قرار المحكمة الجنائية الدولية.
كما يحظى أوربان بعلاقات شخصية متينة مع الرئيس إردوغان الذي ضمّ بلاده هنغاريا بصفة مراقب إلى منظّمة الدول التي تتحدّث التركية بحجة أنّ غالبية الشعب الهنغاري من أصول تركية. كما هو الحال بالنسبة لسكان شبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا إليها عام 2014، وهو ما لم تعترف به أنقرة التي استمرّت في دعمها للأقلية المسلمة هناك، كما هي ندّدت وأكثر من مرّة “بالغزو و الاحتلال الروسي لأوكرانيا”.
كذلك استمرّت في تعاونها العسكري مع كييف وخاصة في مجال تكنولوجيا الطائرات المسيّرة التي تصنعها تركيا وقامت بتطويرها بالمحرّكات الأوكرانية النفّاثة.
ومن دون أن يمنع ذلك أنقرة من الاستمرار في تعاونها الشامل مع روسيا، وعلى الرغم من العقوبات الأوروبية والأميركية التي لم تلتزم بها مقابل امتيازات عديدة في العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية مع موسكو.
ومن دون أن تكون كلّ هذه التفاصيل المتناقضة كافية لاتفاق بوتين وترامب لعقد قمّتهما الأولى في إسطنبول التي استضافت العديد من اللقاءات الروسية – الأوكرانية والروسية – الأميركية على مستويات مختلفة منذ التدخّل الروسي في أوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022.
ومع استمرار مساعي الرئيس إردوغان لإقناع بوتين وترامب بل وحتى زيلينسكي لعقد القمة الروسية – الأوكرانية في إسطنبول، فالأوساط السياسية تستبعد مثل هذا الاحتمال الذي تسعى دبي أيضاً أن يكون لصالحها حالها حال جنيف بل وحتى الرياض التي يسعى أميرها لإثبات دوره الإقليمي والدولي عبر علاقاته الشخصية المميّزة مع الرئيسين ترامب وبوتين.
وهو ما يسعى إليه الشيخ محمد بن زايد الذي يعتمد في الوقت نفسه على علاقاته المميّزة مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو. وتتوقّع المعلومات أن يجمعه الرئيسان ترامب وبوتين مع الرئيس إردوغان والرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع بعد أن حقّقت لقاءات وزير خارجيته أسعد الشيباني مع الوزير الإسرائيلي رون ديرمر تقدّماً كبيراً قد يفتح المجال للتطبيع بين دمشق و”تل أبيب” بالسرعة التي لا يتوقّعها أحد.
مع الرهان على دور حكّام سوريا الجدد بعلاقاتهم الإقليمية والدولية المتشابكة في مجمل الخطط والمشاريع الإسرائيلية والأميركية التي تهدف لإعادة صياغة خارطة المنطقة.
ويتطلّب ذلك المزيد من التنسيق والتعاون والعمل المشترك بين أصدقاء وحلفاء ترامب ونتنياهو وضد إيران وقبل ذلك حزب الله. وهو ما يثبته دور العديد من الدول الإقليمية في دعم مخططات الثنائي عون-سلام لنزع سلاح المقاومة، وبناءً على تعليمات وأوامر واشنطن أي “تل أبيب” التي ترى في حزب الله العائق الأخير الذي يمنع أو يؤخّر تطبيق المشروع الذي تحدّث عنه نتنياهو لإقامة “دولة إسرائيل الكبرى”.
وسنرى قريباً كيف بحث الرئيسان بوتين وترامب مستقبلها في ظلّ حسابات كلّ دول المنطقة، وفي مقدّمتها تركيا التي يريد لها الرئيس إردوغان أن تحيي ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية التي تغنّى بها السفير الأميركي في أنقرة توم برّاك أكثر من مرة. فيما يعرف الجميع أنّ هذه الذكريات تزعج روسيا وإيران واليونان بل وحتى معظم الدول الأوروبية التي وربما لهذا السبب لا تفتح أبواب الاتحاد الأوروبي لتركيا منذ أكثر من خمسين عاماً.
وقد يحدّد بوتين وترامب مسار السنوات الخمسين المقبلة خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة باختيار إسطنبول كمكان للقمم المقبلة، أو باستبعادها من ذلك كمؤشّر على التقليل من الدور التركي أوّلاً في سوريا “الجديدة ” ومن ثمّ في صياغة مستقبل المنطقة في إطار الاتفاقيات الإبراهيمية التي سيكون فيها للرياض “العدو التاريخي لتركيا” الدور الريادي باعتراف بوتين وترامب.
ويبدو واضحاً أنهما قد اتفقا حول العناوين الرئيسية لمستقبل المنطقة أي الشرق الأوسط الذي يتنافس من أجله الرئيس إردوغان مع العديد من زعماء المنطقة مع خلاف نهجه العقائدي الإخواني معهم، وفي مقدّمتهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الإمارات محمد بن زايد والرئيس المصري السيسي بل وحتى العاهل الأردني الملك عبّد الله الذي تمرّد جدّه الأكبر الشريف حسين ضدّ الأتراك عام 1916.
ومع انتظار ما سيقرّره الرئيسان بوتين وترامب، استنفرت أنقرة كلّ إمكانياتها وهي ليست كثيرة للحصول على اعتراف دولي بهذا الدور بحظوظه القليلة بسبب الأزمات المالية والاقتصادية الخطيرة التي تعيشها تركيا مع استمرار الأزمات السياسية الداخلية بسبب حظوظ المعارضة في التخلّص من إردوغان في أوّل انتخابات مقبلة.
ويبقى الرهان في نهاية المطاف على حنكة وذكاء الرئيس إردوغان للتخلّص من تناقضاته في العلاقة الشخصية مع ترامب وبوتين كي يحظى بضوء أخضر أميركي – روسي مشترك لدوره في سوريا أوّلاً والشرق الأوسط عموماً، مع المعلومات التي تتحدّث عن “توافق” روسي -أميركي للتخلّص من حكّام دمشق الجدد وصياغة واقع جديد لسوريا الموحّدة أو الفدرالية أو المقسّمة وفق التوافقات الإقليمية الجديدة التي لا يريد الكثيرون لها أن تعترف للرئيس إردوغان بمزيد من الأدوار التي أدّاها منذ ما يسمّى بـ “الربيع العربي” بدعم أميركي وغربي وضدّ محور المقاومة المدعوم آنذاك من موسكو.
ويتوقّع لها الكثيرون الآن أن تعيد النظر في مجمل حساباتها الإقليمية والدولية بعد الانتصار الذي حقّقه الرئيس بوتين خلال لقائه الرئيس ترامب في ألاسكا التي نجح بوتين في تسخين أجوائها الباردة التي سنرى قريباً هل وكيف ومتى ستتحوّل إلى صقيع قاتل بالنسبة للعديد من الدول وزعمائها!
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم