| فراس عزيز ديب
بينَ مجزرةِ مدرسة الفاخورة مطلعَ عام 2009 ومجزرة مدرسة الفاخورة قبل ساعات، لا شيءَ تغير ويستحق الذكر في هذا الشرقِ البائِس إلا طريقةَ الإدانة والاستنكار التي انتقلت من التصريحاتِ التلفزيونية إلى ترينداتٍ على وسائلِ التواصل الاجتماعي، فيما بقي الضحية متشبِّثاً بحقهِ والقاتل متأبطاً خنجره، مجموعة من المجازر يرتكبها العدو بهدوءٍ وسطَ صمت عربي وغطاءٍ دولي، لم تسلم المشافي ولا مراكز الإيواء ولا حتى الجثث التي لم تحظ بنعمةِ الدفن، يا لهُ من زمنٍ باتَ فيهِ الدفن نعمة! لتُدفن معها المزيد من الآمال بأن «نزارنا» الدمشقي كان مخطئاً عندما تحدَّى فيروز بأن أجراس العودة لن تقرع! حتى بتنا نرى بمن يقرعُ أجراس الإنذارِ من خطورةِ ما يجري بعيداً عن مساحيقِ التجميل الإعلامية عميلاً أو انهزامياً، لكن دعكم من هذه الترهات، لا تكترثوا لأبطال الشاشات ودعونا نقرع جرسَ إنذارٍ جديداً عنوانه العريض: سقوط المقاومة هو هدف لهذه الحرب!
في هذا الشرقِ البائس دائماً ما نركِّز في الهدفِ الذي يريد العدو تحقيقه، لكننا بالوقت ذاته نتجاهل عشرات الأهداف البديلة المنبثقة من هدفهِ الرئيس، نتباهى بنجاحنا في إسقاط هدفه الرئيس فيما تتغلغل أهدافهُ البديلة في ثنايا حياتنا كما تتغلغل أفاعي الصحراء في الرمال الحارة، هل تذكرون سيئة الذكر كوندوليزا رايس عندما تحدثت عن «مخاض ولادة شرق أوسط جديد»؟ ربما فشلَت بتحقيقِ حلمها على جثث أبناء لبنان لكن ما جرى بعدَ ذلك عبرَ الأهداف الفرعية جعلَ هذا الشرق أثراً بعدَ عين فهل تعلمنا من الدرس؟!
بهذا السياق تبدو الحرب الإرهابية التي يشنها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة منذ قرابة الشهر، إذ إن لائحة الأهداف المعلنة للحرب تتجلى بالهدف الأهم وهو القضاء على المقاومة الفلسطينية أو ما يعرف إعلامياً بالقضاء على «حماس» باعتبار أن هناك من يختصر المقاومة بـ«حماس»، هذا الهدف عملياً يبدو بعيداً كل البعد ما لم تقم إسرائيل بهجومٍ بري يبدو هو الآخر بعيداً كل البعد، تحديداً أن الإدارة الأميركية تبدو مترددة حتى الآن بإعطاء الدعم للكيان في هذه العملية لأسبابٍ شتى منها اضطرارها المباشر للمشاركة بعدَ أن أثبت جيش الاحتلال فشله العسكري خارج سياق الضربات الجوية، منها أيضاً عدم قدرة الأميركي على إعطاء الكيان المزيد من التغطية حول ما يرتكبه من جرائم لدرجةٍ دفعت حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للخروجِ بتصريحاتٍ غريبة قال فيها: «الحرب على الإرهاب لا تبرر استهداف المدنيين» وكلنا يعلم أن أي مسؤولٍ غربي على شاكلةِ ماكرون لا يمكن له الخروج بتصريحٍ كهذا يُدين الكيان مباشرةً ما لم تكن الأمور فعلياً خارج سياق التجميل، لكن عدم تحقيق هذا الهدف لا يعني الاستسلام لفكرةِ أن الكيان فشلَ في تحقيقِ أهدافه، كما لا يعني أن ما جرى منذ السابع من تشرين الأول الماضي هو انتصار للقضية الأهم في هذا التاريخ، لأن سياق المعركة حتى الآن مع إطلاق يد الكيان الصهيوني ليفعل ما يشاء، تبدو كأنه اتفاق على إنهاء فكرة المقاومة ليس عسكرياً وإنما بطرقٍ تبدو أكثرَ قذارة فكيف ذلك؟
عندما أعلنت المقاومة الفلسطينية عن وجودِ رهائنَ لديها من أكثر من جنسية غربية طلبت بعض الدول بما فيها فرنسا من الكيان التريث بعمليات القصف الجوي على أملِ التفاوض مع المقاومة في حال وجود رهائن فرنسيين، لكن الرد الإسرائيلي كان واضحاً، لن يتم وقف العملية بمعزلٍ عن مصير الرهائن، فعلياً بدأت إسرائيل حربها العشوائية، لم تكترث لتحذيراتِ الناطقين باسم «حماس» بأن القصف سيؤدي إلى مقتلِ الرهائن، هذا يعني أن الكيان أخرجَ قصة الرهائن من السجال لمنعها أن تكونَ ورقةَ ضغطٍ عليهِ مع التمسك ببعض التصريحات الإعلامية التي تتحدث عن التفاوض عبر وسطاء بشأنهم، فقط من أجل امتصاص الغضب في الداخل الإسرائيلي، هذهِ الخطوة أراحته كثيراً ودفعتهُ للاستمرارِ في وحشيتهِ وهو ما لم يفهمه البعض حتى الآن على مبدأ التضحية بمئتي رهينة أفضل من التضحية بفرصة تصفية «حماس»، هو يدرك أن الثمن الذي سيدفعهُ من أجل الرهائن سيكون مكلفاً، مسؤول أميركي تحدث عن وقفٍ كامل للعمليات القتالية من أجل التفاوض حولَ الرهائن يقابله إدخال مساعدات إنسانية إلى غزة، لكنهُ لم يتحدث عن اللحظة التي تلي تسليمَ الرهائن وإدخال المساعدات، هل ستعود آلة الحرب الإسرائيلية؟ إذاً ما الذي ستجنيه «حماس»؟ هل ستتوقف العمليات القتالية؟ عندها ستتوقف على أي أساس؟ هل بالعودة إلى ما كان عليهِ الوضع قبل السابع من تشرين الأول عندها من سيكون المنتصر ومن سيكون المهزوم؟ أم بواقعٍ جديد تفرضه الكثير من المتغيرات؟
منطقياً قد يكون الاحتمال الثاني هو الأقرب، تحديداً أن الكيان أمام فرصةٍ تاريخية لنيل ما يريد فكيف ذلك؟
في خطابهِ قبل أمس أكد الأمين العام لحزبِ الله حسن نصر الله أن قرار عملية «طوفان الأقصى» كان فلسطينياً بحتاً لم تعرف بهِ باقي الفصائل المقاومة، هذهِ العبارة تركت الكثير من التساؤلات أهمها:
إذا كان شركاء السلاح لم يعرفوا بالعملية فماذا عن الجناح السياسي لحماس المقيم في قطر على بعد كيلومترات قليلة من أهم قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة؟ هل كان على علمٍ بهذهِ العملية؟ الجواب هنا حكماً لا ولو كانوا على علمٍ بها لفشلت، لكن هذا الكلام هو نصف الحقيقة، أما باقي الحقيقة فهو إصرار الجناح السياسي للحركة على رفع سقوف التفاوض لدرجاتٍ غير مسبوقة وغير مفهومة، لدرجةٍ تشعر فيها بأن بيانات المدعو إسماعيل هنية من عاصمة «الترفيه المقاوم» الدوحة مثلاً منفصلة عن الواقع بطريقةٍ سافرة تحديداً عندما أطلق بسلسلة «غير مسموح للعدو بعدَ اليوم» تحذيرات لا يطلقها إلا منتصر في معركة يرسل للعدو شروطه لوقف القتال والواقع في الحقيقة غير ذلك، هل يأتي رفع السقوف بهذه الطريقة في سياق إحراج الجناح العسكري عند التفاوض وإخراجه بمظهر المنهزم، تحديداً أن تلكَ الشروط لم يقلها الناطق باسم حماس «أبو عبيدة» لأنه عملياً على أرض الواقع ويعي الوضع على الأرض.
أما قطر فهي استبقت الدخول بنفقِ التفاوض عبرَ كلامٍ منسوب لمسؤول قطري بأن دولته تدرس فعلياً مسألة وجود «حماس» على أراضيها، هذا الاستباق ليس بريئاً لأنه حكماً ليسَ خوفاً من تبعات العملية لكنه تحضير منطقي لما هو قادم والذي سيحمل الأهداف الفرعية التي ستنساب بين ثنايا الهدف الرئيس فماذا ينتظرنا؟
من خلالِ التقاطعات الدبلوماسية يبدو الطرح الأقرب للتحقيق هو مسألة وضع القطاع تحت وصايةٍ عربية، هذا الطرح لم يعد مجردَ كلامٍ ليس بذي مصداقية بل الخطة القادمة التي تعني حكماً إنهاءَ فكرة المقاومة في القطاع بطريقةٍ تكفل للكيان عدم الذهاب إلى حل دولتين وبالسياق ذاته تكفل للفلسطينيين العيش في سلام، لكن المدافعين عن هذهِ الفكرة يطرحون سؤالاً خبيثاً:
هل إن كل سكان القطاع يوافقون على ما تقوم بهِ «حماس»؟ دليلهم على ذلك هو الوضع في الضفة الغربية، هم فلسطينيون أيضاً! أما من يرون استحالةَ تحقيق هذا الحل فهم ذاتهم الذين كانوا يظنون أن الكيان سيُترك وحيداً في أي معركة، ربما كانت لديهم مشكلة في فهم الوظيفة الحيوية للكيان في نظرِ الدول الداعمة له والتي تجعل الدفاع عنه دفاعاً عن الأراضي الأميركية والبريطانية، تبدو فكرة الحل التي توافق عليها أغلبية الدول العربية بدخولِ قوات عربية إلى القطاع للإشراف على عملية إعادة الإعمار والسيطرة على المعابر وإنهاء الوجود المسلح، لكن أخطر ما في هذا الطرح هو أن فكرة تصفية القضية الفلسطينية باتت فعلياً في النفق الأخير، هناك من يقولها صراحة بأن هذا الشرق تعبَ من الحروب ومن حق شعوب هذه المنطقة الاستمتاع يوماً بحياةِ الرفاهية بعيداً عن القتل والدمار والشعارات التي أثبتت التجربة أنها أكبر بكثيرٍ من القدرات لأن الجميع يتهرب من الحرب، وهناك وجهة نظر تقول: بما أنه لم يحن الوقت بعد لاقتلاع الكيان وبما أننا جميعاً لا نعلم بالغيب ونجهل الوقت الذي سيتم فيهِ اقتلاع هذا الكيان، تعالوا نفكر بالغد الأفضل حتى يأتي أمر الله، وبين هذا وذاك قلنا منذ اليوم الأول: إن كانت الحرب الشاملة غير ممكنة فلا تفرطوا في التفاؤل، لا تأخذكم الشعارات حيث الغيبوبة التي بتنا فيها نرى وقف العدوان والمجازر انتصاراً، المعارك الكبرى لا تُخاض بالأمنيات، وإلا سنكرر سيناريو كوندوليزا رايس المشؤوم، هل حقاً لم يولد الشرق الأوسط الجديد؟!
سيرياهوم نيوز1-الوطن