آخر الأخبار
الرئيسية » حول العالم » غزة تقسم الأحزاب الأوروبية: بوادر «حروب أهلية» يسارية

غزة تقسم الأحزاب الأوروبية: بوادر «حروب أهلية» يسارية

سعيد محمد

 

في أنحاء القارة الأوروبية جميعها، اضطرّت الأحزاب والحركات السياسية، بدفعٍ من الشارع، لاتخاذ مواقف معلَنة من العدوان المتواصل على غزة. وفيما كانت التيارات اليمينية أكثر اتّساقاً مع منطقها الأيديولوجي، المنحاز إلى الاحتلال، فإن غالبية الأحزاب اليسارية فقدت هي الأخرى فرصة تاريخية لتصويب تموضعها، فأطلقت معظم قياداتها مواقف مؤيّدة لإسرائيل، ما نكأ جروحاً قديمة داخل تحالفاتها الهشّة، وفتح أبواباً لحروب أهلية، في وقت تكافح فيه هذه الأحزاب للصمود في مواجهة تسونامي صعود التيار اليميني

لندن | حتى وقت قريب، كان «حزب العمل» البريطاني المعارِض، يهيمن على مجلس بلدية مدينة أكسفورد (شمال غرب لندن)، حيث الجامعة العريقة. لكن مع توالي استقالات أعضاء المجلس من الحزب، احتجاجاً على موقف زعيمه، السير كير ستارمر، من الحرب في غزة، تراجع تمثيل «العمل» تدريجيّاً، ليفقد غالبيته، يوم الخميس الماضي، مع تنّحي عضو بارز تاسع عن منصبه، ولِتَخْلع أكسفورد رداءها الأحمر الذي ارتدته طويلاً. وكان ستارمر، الذي يُعدّ تلميذ رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير، قد أثار عاصفةً من الغضب داخل أكبر أحزاب المعارضة البريطانية، بعدما أجاب بـ«نعم» صريحة، أثناء لقاء متلفز، عن سؤال حول ما إذا كان يَعتقد بأن الحصار على غزة له ما يبرّره، متجاهلاً في ذلك أساسيات «القانون الدولي»، كما مواقف التكتّلات العمّالية والماركسية في قاعدة حزبه.

ورغم محاولة ستارمر اللاحقة التخفيف من حدّة تصريحاته، وإعلانه تأييده إرسال المساعدات إلى غزة، لكن الضرر الواقع بدا أكبر من أن يُجبَر، خصوصاً في ظلّ حراك الشارع البريطاني الكثيف ضدّ العدوان على غزة، واستمرار تدفّق أنباء الإبادة وصورها التي ترتكبها القوات الإسرائيلية ضدّ المدنيين في القطاع. وعلى هذه الخلفية، أصدر «متمرّدو» مجلس مدينة أكسفورد بياناً حاداً انتقدوا فيه ستارمر، واتّهموه بـ«التواطؤ العلني في جرائم حرب». وتجدر الإشارة إلى أن «حزب العمل» البريطاني ائتلاف فضفاض مُتشكّل من قوى نقابيّة وعمّالية وسياسية تتموضع في مربع يسار الوسط. وقد استفاد، في الآونة الأخيرة، من انهيار التأييد الشعبي لحكومات «حزب المحافظين» الحاكم، بسبب الفضائح المتلاحقة والفساد وسوء الإدارة، ليعود مرشّحاً قويّاً لاستعادة السلطة في الانتخابات العامة المقبلة، والمزمع إجراؤها في كانون الثاني 2025، وذلك بعد عقدٍ ونصف عقد من التقوقع في صفوف المعارضة. ولهذا السبب تحديداً، يمكن القول إن تصريحات ستارمر جاءت في توقيت سيّء جدّاً، فيما يُخشى أن تتسبّب في تراجع حظوظ الحزب في الحصول على الغالبية.

ولعلّ الانتقادات الأشدّ أتت من بقايا التيار اليساري في الحزب الذي همّشه ستارمر لمصلحة يمين الحزب من أتباع بلير، وما يسمّى «اليسار الجديد»، إذ تحدّث كثيرون في قواعد الحزب عن «الخطأ التاريخي» المتمثّل في التخلّي عن الزعيم اليساري السابق للحزب، جيريمي كوربِن، ومنْعه حتى من الترشّح على قوائم «العمل» عن منطقته السكنية. على أن الانتقادات لموقف ستارمر جاءت أيضاً من قيادات بارزة في «العمل»، وبعضها من حلفائه، بمن فيهم عمدة بلدية لندن، صادق خان، وزعيم «حزب العمال» (فرع إسكتلندا)، أنس سروار ، وزعيم أكبر نقابات عمّال القطارات، مايكل لينش، وكذلك عدد من السياسيين المسلمين. وأيّد هؤلاء، كما المئات من أعضاء مجلس الحزب، وحوالى ثلث نوابه في مجلس العموم، الدعوة إلى «وقفٍ لإطلاق النار في غزة»، في تحدٍّ جليّ لموقف القيادة. وعلى خلفية دعوة مماثلة، أقال رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، المساعد الوزاري والنائب المحافظ، بول بريستو، بعد حثّه الأول على الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة. وكان بريستو قد اعتَبر أن «وقف إطلاق النار الدائم في غزة، من شأنه أن ينقذ الأرواح»، لافتاً إلى أنه «من الصعب فهم كيف ستؤدّي إستراتيجية قصف غزة إلى تحرير الأسرى لدى حركة حماس».

حاولت واشنطن، من خلال تسريبات صحافية، الإيحاء بأن مسؤوليها «نصحوا» شركاءهم الإسرائيليين بتأجيل قرار الدخول البرّي إلى غزة

وفي الموازاة، نقلت الصحف عن وزيرة الظلّ لشؤون المرأة والمساواة والنائبة عن حزب «العمل»، ياسمين قريشي، قولها، في جلسة لمجلس العموم، إن «ما يجري في غزة عقاب جماعي للشعب الفلسطيني على جرائم لم يرتكبها». وسألت سوناك الذي كان يحضر الجلسة: «كم عدد الفلسطينيين الأبرياء الذين يجب أن يموتوا قبل أن يتفضّل رئيس الوزراء ويدعو إلى وقف إطلاق نار لأسباب إنسانيّة؟»، في ما اعتبره كثيرون إذلالاً لستارمر، الذي رفض تأييد الدعوات إلى الهدنة. كذلك، تحدّث نواب «العمل» في مجلس العموم، عن ضغوط يتعرّضون لها من ناخبيهم، ولا سيما اليساريين والمسلمين، للنأي بأنفسهم عن مواقف ستارمر، وتبنّي الدعوة إلى وقف إطلاق النار.

وفي المقابل، لا يُتوقّع أن تتسبّب هذه الأزمة في إسقاط ستارمر، مع أن تأثيرها، في حال طالت الحرب على غزة، قد ينعكس سلباً على قدرة «حزب العمل» على استعادة ثقة قطاعات عريضة من الناخبين المتردّدين، ما قد يدفع سوناك، إلى المغامرة بتقريب موعد الانتخابات العامة إلى الصيف المقبل، لاستغلال هذا الارتباك في صفوف أهمّ منافسيه.

وفي موازاة التوتّرات المصاحبة لحرب غزة، وتأثيراتها في «العمل» البريطاني، ثمّة خلافات مماثلة تدور على البرّ الأوروبي. ففي فرنسا، يقف جان لوك ميلانشون، الزعيم المخضرم لحزب «فرنسا الأبيّة» وحيداً من بين زعماء الأحزاب اليسارية، في التضامن مع الفلسطينيين، في حين يتلعثم رؤساء الأحزاب الأخرى في ائتلاف «نوبيس» اليساري الذي تشكَّل لخوض الانتخابات البرلمانية العام الماضي: «الاشتراكيون»، و«الخضر»، و«الشيوعيون». وبدا الائتلاف برمّته على وشك الانهيار، بعدما رفض ميلانشون وصْف هجوم السابع من أكتوبر، بالعمل «الإرهابي»، في بيان «نوبيس». وكتب معلّقاً: «أعتقد أنّنا قد وصلنا نقطةَ اللا عودة». وبالفعل، فقد علّق «الاشتراكيون» مشاركتهم في الائتلاف، بينما دعا «الحزب الشيوعي الفرنسي» إلى «ائتلاف من نوع جديد». على أن مصاعب ميلانشون لا تقتصر على حلفائه، إذ إن تيارات داخل «فرنسا الأبيّة» لديها تباينات – انتقل بعضها إلى العلن – حول الموقف من حركة «حماس»، وتصنيفها كـ«حركة مقاومة». وهكذا، يبدو أن فلسطين لن تقضي على «نوببس»، التحالف الانتخابي المصلَحي المؤقّت، فقط، بل إنها ستعيد (أو أعادت بالفعل) إحياء تناقضات تاريخية بين تقاليد يسارية مختلفة لا يَسهل التوفيق في ما بينها. وإذ يدعم اليسار الفرنسي المتطرّف عادةً النضال الفلسطيني ضدّ الصهيونية، يحاول الاشتراكيون دائماً أخذَ مسافات متساوية من طرفَي الصراع.

أمّا في إسبانيا، فسارع القائم بأعمال رئيس الوزراء في البلاد، زعيم «الحزب الاشتراكي» بيدرو سانشيز، إلى إدانة هجوم السابع من أكتوبر، فور حدوثه، معتبراً إيّاه «عملاً إرهابيّاً»، قائلاً إن حكومته تدعو إلى «وْضع حدٍّ فوري للعنف العشوائي ضدّ السكان المدنيين». لكن إنريكي سانتياغو، الأمين العام لـ«الحزب الشيوعي الإسباني» وعضو البرلمان عن تحالف «سومار اليساري» والمتحالف مع سانشيز، رفض بشدّة وصف مقاتلي «حماس» بالإرهابيين، وأصرّ على «حقّ الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه في مواجهة الاحتلال». كذلك، أثار ثلاثة وزراء من أحزاب يسارية شريكة لسانشيز في حكومة تصريف الأعمال، غضب السفارة الإسرائيلية في مدريد، بعدما أدلوا بتصريحات اعتبروا فيها أن إسرائيل «تنتهك القانون الدولي، وترتكب إبادة جماعية وجرائم حرب في غزة». ودافعت الحكومة عن وزيرة الحقوق الاجتماعية، وزعيمة حزب «بوديموس»، أيون بيلارا، وزميلتها في الحزب، وزيرة المساواة بالوكالة إيرين مونتيرو، والقائم بأعمال وزير شؤون المستهلك، ألبرتو غارزون (من منصّة «اليسار المتحد»)، فيما اتّهم بيان للخارجية الإسبانية، سفارة الكيان بـ«نشر الأكاذيب»، مطالباً بـ«احترام حقّ السياسيين الإسبان في التعبير عن آرائهم»؛ ما اضطرّ سانشيز تالياً إلى مراعاة مواقف شركائه الذين يحتاجهم بشدّة في هذا الوقت، بينما يحاول بناء ائتلاف حاكم. ومن هنا، حمل معه إلى قمة بروكسل، الأسبوع الماضي، دعوةً، وإنْ خجولة، إلى وقف إطلاق النار في غزة.

وحده اليسار الألماني اصطفّ بكلّيته وراء الدولة العبرية. وكان المستشار أولاف شولتس، من «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» (يسار الوسط)، قد سارع لزيارة تل أبيب بعد هجوم السابع من أكتوبر، ليؤكد للقادة الإسرائيليين مجدّداً أن «أمن الدولة الإسرائيلية ووجودها» هو «سبب وجود الدولة الحديثة» في ألمانيا. وتسابق أعضاء «حزب الخضر»، شريك «الاشتراكي» في السلطة، على إعلان التضامن التامّ مع إسرائيل. وأرسل روبرت هابيك الذي يتولّى منصب نائب المستشار الألماني، رسالة فيديو عاطفية مؤثّرة إلى يهود إسرائيل، فيما تلعب زميلته أنالينا بيربوك، التي تدير وزارة الخارجية الألمانية، دور صقر عنيد مؤيّد لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. ولم يخرج عن عزف يساريّي السلطة، أيّ من الأحزاب اليسارية الصغيرة، سواء منها الممثَّلة في البرلمان، أو تلك الموجودة خارجه.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هرتسوغ يحذر من تفكيك إسرائيل بسبب الصراعات السياسية الداخلية: هناك من يدمر بلادنا ويجب أن يتوقف هذا الجنون الآن

حذر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الخميس، من “تفكيك” البلاد جراء حملات الاتهام المتبادلة في الساحة السياسية المحلية، داعيا إلى أن “يتوقف هذا الجنون الآن”. وفي ...