| سعد القاسم
في عام 1954 سافر إلى إيطاليا حيث درس لمدة ست سنوات في أكاديمية الفنون الجميلة فيها، مرت فيها تجربته بتأثيرات سريالية، وهناك تعرف على (جان بول سارتر) وأعجب بموقفه المتضامن مع الجزائر في كفاحها لأجل التحرر من سيطرة الاستعمار الفرنسي، الصداقة التي نشأت بينهما دعت سارتر لاقتناء أربع لوحات من أعمال المدرس أعجب بمراوحتها « بين التجريد الرصين، ووجود الطبيعة كما نراها في الحلم، والإنسان الذي يتمتع بالقوة والغربة والصمت». كما دفعته إلى ترجمة أربع مقطوعات شعرية لفاتح من الإيطالية إلى الفرنسية، ودعوته لزيارته في باريس، غير أن فاتح لم يلبِ تلك الدعوة فقد آلمه تحوّل سارتر إلى دعم الصهيونية بسبب صبية يهودية عاشت معه في سنواته الأخيرة. وكان كلما فكر بهذا التحول يتساءل: هل حقاً في قلب كل ملاك قاتل محترف؟
الدراسة في باريس
في عام 1960 أنهى دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة، وعاد إلى دمشق ليدرّس في كلية الفنون الجميلة فيها حتى عام 1969 حين سافر ثانية لمتابعة الدراسة في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس والتي استمرت حتى عام 1972، وعن مرحلة باريس كتب لي الدكتور إحسان عنتابي (مشكوراً): «أواخر أيلول / 1969 غادرت دمشق إلى باريس في بعثة دراسية مدتها خمس سنوات تتضمن دراسة اللغة، وهي البعثة الأولى التي توفرها كلية الفنون الجميلة بدمشق إلى الخارج تحت مسمى (أوائل جامعة دمشق).
وفي خريف عام 1970 وصل باريس الأستاذان فاتح المدرس ونذير نبعة، وقمت بمساعدتهما على استئجار منزل. والتسجيل في البوزار (كلية الفنون الجميلة في باريس) التي كنت التحقت بها في مرسم الأستاذ يانكل، وهو المرسم الذي ضم لاحقاً مدرس ونبعة، ثم تبعهم بعد سنة غسان السباعي، وتوالى بعد ذلك الموفدون: منذر كم نقش، عبد القادر أرناؤوط، مصطفى فتحي، كل حسب اختصاصه. كان المدرس أول من وصل بعدي إلى الإيفاد وكنت أرافقه كثيراً من الأحيان احتراماً وتقديراً له، ومعرفة تعود لحوالي عام 1969 في (مركز فتحي محمود للفنون حلب) والذي كان يديره آنذاك إسماعيل حسني. في باريس كان المدرس يفضي بآرائه حول الفن المعاصر والحداثة وابتعاد بعض اتجاهاته عن المعنى من الفن، ويدعو إلى التمسك بإنسانية الفن ورفضه لـ(الصرعات والموضة)، وظل محافظاً على قيمه الفنية التي نعرفه بها من دون أدنى تبديل. كنت إلى جانبه كثيراً خلال الأشهر الأولى، أطلعه على المدينة وأخبرني في أثنائها أنه تعرف على سارتر في روما ضمن تجمعات للمثقفين وأعتقد أن لديه صورة معه في أثناء دراسته هناك، ولم يجر الحديث أنه قابله في باريس. أنهى المدرس إيفاده في عامين، إذ اعتبر أساتذة البوزار أنه فنان ومعلم، وتفهموا أسباب حضوره، والحاجة الإدارية لشروط جامعة دمشق».
الفن والأصالة العالمية
سألت المعلم مرة في لقاء صحفي منشور:
ماذا أضافت أوروبا إلى تجربتك؟
فقال: «إني من المؤمنين بأن الفن الجميل – الفن التشكيلي هو من تراث الوطن ومن شجيراته النادرة ويحمل خصوصية التراب والإنسان في هذا الوطن ومن هذا المنطلق الإنساني الجمالي ترى أن هنالك في العالم فناً وطنياً عالمياً لدى الكثير من الشعوب الجادة في بناء الحضارة، هذا كان هدفي وأنا أعمل إن كان في أوروبا أو هنا في الشرق العربي. أنا أمين لجماليات وطني.. يصعب تحديد جوانب التجربة في الإجابة عن سؤال واحد. الأمر يتطلب شواهد عديدة من الأعمال، كما يتطلب وصف المادة التي أستعملها والمادة هنا ربما كانت البيئة كلها، التاريخ السيكولوجي للشعب الذي أنتمي إليه. ولربما تطلب الأمر الإشارة إلى موقفي كإنسان من هجمات شعوب أخرى معادية لسورية والعرب. كما يدخل في موضوع المادة التي أستعملها، مجموع الأضواء التي تتميز بها أرض وسماء وطني. ربما تعين على أن أحدد العوامل النفسية للوجوه الآدمية من أبناء بيئتي، أو فهمي الذاتي لمفاهيم تجريدية عن القتال والشرف والحرية والحب إلخ… وهكذا ترى – يا سعد – ما هكذا تورد الإبل، وأنا الآن أحد الإبل المتكلمة بالعربية! لعلك تبتسم، لقد تعلمت كثيراً من الحيوانات وأنا هائم في طفولتي في متاهات جبال طوروس وكيليكيا السورية. وإني أعتبر أن كياني كله، بما فيه تفكيري السري، عن نوعية الحياة على الأرض – الوطن – الذي أكلت ترابه كما تفعل ديدان الأرض ورعيت أعشابه وأنا أهيم مع الرعاة أتذوق الأعشاب، حتى إذا جاء الليل والظلام الغامض غصت في متاهات أروع الأساطير التي أسمعها وأنا أرتجف من أفواه الفلاحين. وهكذا ترى يا سعد فأنا لست تعبيرياً في اتجاهاتي التشكيلية، ولست سريالياً ولست تجريدياً. بكل بساطة أنا رسام صوري عربي حديث، أرفض الأخذ بالمفاهيم المستوردة أو المسبقة الصنع. بكل بساطة أنا شاهد على جمال الأرض والإنسان كما أنا شاهد على أحزان عصري».
الرؤية والغد
تتجلى مفاهيم المعلم فاتح حول العلاقة بين الفنان الشرقي والثقافة الغربية أيضاً في نص كتبه عام 1980 معلقاً على تجربة الفنان علي سليم الخالد بعد عودته من دراسته في باريس حيث كتب: «إن المفاهيم الجمالية الموجودة في فن الفنان السوري علي الخالد اختزلت في فترة وجيزة لا تتجاوز الـ 8 سنوات مفاهيم الحفر من أواخر القرن الثامن عشر، إلى أواخر القرن العشرين. هذا يعني أن الطاقة الإبداعية الكامنة في ذاكرة الإنسان التدمري لم تستطع يد الدمار مساسها، وهذا يقودنا إلى الحقيقة التالية: إن الطاقة الإبداعية لدى الشعوب تبقى ما بقيت هذه الشعوب، مهما لحقها من دمار سياسي وهجمات حضارية، فالعمر الحديث لفن الحفر العربي السوري لا يتجاوز جيلاً واحداً، مع أن التقصير التقني الصناعي للشعوب العربية غارق في سبات من الاستعارات، فالطاقة الإبداعية للفن التشكيلي للبلاد العربية علامة على حيوية الشعب، على الرغم من ضحالة التوجيه العلمي، فإذا قارنا اليوم بين نتاج أحد الفنانين في مجال الحفر في سورية، وبين فنان فرنسي أو برازيلي أو ألماني، نجد أن هذا الفنان قد استطاع أن يضع إلى جانب أعمدة تدمر ما تتوق هذه الأعمدة، إلى استمرارية الحضارة.
إن أعمال الفنان الحفار علي الخالد، حتى قبل الذهاب إلى باريس، كانت ناضجة حضارياً، مدينة باريس أعطته أمراً واحداً هو حسّ الفن المقارن. هذا الإحساس لم ينقص من استشفافه لرؤى الغد في بناء قواعد الحضارة لهذا الشعب. إنك عندما تجد في عمل فني اختزالات، بشتى أنواع التقنية صبت في قالب، والشرق كله، التقنية التي هي حصيلة منتهى المشاعر الدقيقة في البناء التشكيلي».
سيرياهوم نيوز1-الوطن