عبد المنعم علي عيسى
الأربعاء, 13-10-2021
كانت ست ساعات مقتطعة من رحم ليلة الإثنين الرابع من شهر تشرين أول الجاري كافية لوضع «إمبراطورية» مارك زوكربيرغ في وضعية المترنحة، أو التي تمضي نحو خريفها تماماً كما حدث مع الإمبراطورية الكبرى الأم في خريف سابق قبل نحو عقدين ونيف من الزمن.
فجأة هكذا، ودون سابق إنذار، بدا وكأن الإمبراطورية الصغرى قد أصابها شلل تام طال جل نقاط الارتكاز فيها، حيث سيعلن الناطق باسمها عن توقف مؤقت لمنصات «فيسبوك، ماسنجر، واتس آب، انستغرام» عن تقديم خدماتها للزبائن البالغ عديدهم مليارين وسبعمئة مليون فرد على امتداد هذا العالم، ولوهلة بدا أن هؤلاء، أو جلهم على وجه التحديد، قد أصابهم مس يبدو أنه ناجم عن إحساس لديهم بالقطيعة مع نمطية جديدة في العيش تلك التي استطاع زوكربيرغ قولبتهم عليها، فالمؤكد هو أن هذا الأخير كان قد احتبسهم في علبة ألياف زجاجية لا تتجاوز أبعادها الـ 10×5 سم، والفعل من حيث النتيجة كان قد أدى إلى حدوث انقلاب جذري في حيواتهم طال مفاهيم هذي الأخيرة برمتها، ومعه، أي مع ذلك الانقلاب، بات للصداقة مفهوم آخر، وللحصول على الخبر والمعلومة وسائل أخرى لا يهم معها إذا ما كانت تلك الوسائل أمينة في النقل أم هي غير أمينة، بل إن تركيبة الفرد وطريقة عيشه راحت تتساكن مع هكذا نمطية، ثم التقولب معها في تسارعها الذي راح يواكب تسارع الأحداث في كوكب بدا في جزء منه غير عابئ بأحداث مضى على حدوثها أسابيع أو حتى أيام، فالنمطية الجديدة في التفكير تدرج هكذا أحداث تحت مسمى «غير الطازجة»، كما «الخبز البايت» غير المرغوب في وجوده على المائدة، وذلك فعل من شأنه، بمرور الوقت، أن يحيل الذاكرة إلى ركن هامشي في سلوكية الفرد، والفعل يتعزز أيضاً عبر «خدمة» لطالما تكفلت منصات أخرى بتقديمها سريعاً من نوع «غوغل» الذي يكفيك معه وضع لائحة تحتوي على ذكر حدث ما تريد معرفة شيء عنه ثم الضغط على زر صغير، وإذ بكل المعلومات ترد إليك كأنك في حضرة مكتبة جامعة، ماذا تفيد الذاكرة إذاً مع كل هذا؟ وما هو لزومها طالما أن هناك من هو قادر على إعفائك من أثقالها وحمولاتها؟
لا ينفصل صعود زوكربيرغ الواصل إلى بناء إمبراطورية تقنية هي الأعلى مما شهده العالم في هذا السياق، عن صعود الإمبراطورية الأميركية الواصل هو الآخر، ما بعد انفراد الأخيرة بالهيمنة العالمية العام 1991 فصاعداً، إلى تراكم أسباب القوة الذي أفضى كنتيجة إلى تسويق حلم، لدى الأميركيين، أرادوا من خلاله رؤية عالم شبيه بهم فحسب، أو هو لا يختلف عنهم بالكثير، كلا الصعودين مرتبطان، وعوامل الربط عديدة، فإذا ما كانت الأخيرة قد استندت في قيامتها على منظومة اقتصادية عسكرية مشوبة بعوامل أخرى، وهي استطاعت من خلالها بسط نوع جديد من الاستعمار الاقتصادي، ولربما لم يشهده العالم من ذي قبل، فإن الأول كان قد ذهب في سياق صعوده نحو بناء نموذج بنواة تكنولوجية لكن «سيتوبلازما» الاقتصاد تحيط بها من كل حدب وصوب، وبهذا المعنى فإن النموذج يصبح فتحاً جديداً في تسويق نوع خارق من الاستعمار، والحداثة في النموذج تتأتى من أن هذا النوع الجديد لا يحتاج إلى قوة لفرضه واقعاً على الأرض، بل إنه مرغوب جداً من قبل من يطبق عليهم، حتى ليحسدهم عليه ممن لا يشملهم الفعل السابق، ولذا فإن مشهدي الترنح، الأول الذي عاشته الإمبراطورية الكبرى خريف العام 2001، والثاني الذي عاشته نظيرتها الصغرى خريف العام 2021، يبدوان كصنوين، قياساً لكون الفعلين يمثلان في آن واحد سقوطاً للهيمنة أياً تكن الأدوات التي تستخدمها للوصول إلى قولبة من تستهدفهم بقوالب يصبح عصياً عليهم، من خلالها، السير خارج دائرة تأثير حقلها المغناطيسي.
وفقاً لتحقيق أجرته صحيفة الـ «ديلي ميل» البريطانية بعد أيام من «فاجعة» الإثنين الأول من شهر تشرين الجاري، فإن الجزء الأكبر ممن شملهم فعلها ذاك كان قد عبر عن غضبه من رسائل زوكربيرغ الاعتذارية قائلين: إنه، أي هذا الأخير، «لم يهتم بمشاعر المستخدمين»، والبعض من هؤلاء سخر من أسلوب الاعتذار الذي يوحي بأن «العالم كله بحاجة إليه»، في حين قالت شريحة ضيقة إن الفعل، أي خروج منصات فيسبوك الثلاث عن الخدمة، كان فرصة للاستمتاع بالراحة، واستعادة بعض من الحياة التي عاشوها في السابق، ومن المؤكد أن «الساخرين» كانوا ممن ينتمون إلى أعمار صغيرة، بمعنى أنهم من جيل لا يعرف مرحلة «ما قبل زوكربيرغ»، بل ولا يستطيع حتى تخيلها، أما «المستمتعون بالراحة» فكانوا بأعمار أتاحت لهم العيش في المرحلة سابقة الذكر.
هذا يشير إلى أن المشروع سيؤدي في مرحلة من المراحل إلى قطيعة ما بين تتابع الأجيال، ليصل في مراحل متقدمة إلى نمط منها لا يرى نفسه خارج السياقات التي ارتسمها ذلك المشروع له، بل ويمضي إليها بكلتا يديه ورجليه ساعياً نحو «فخ» لا يريد الخلاص من شباكه.
لكن السؤال، عندما سيصل المشروع إلى إنضاج تلك الأجيال، هو ماذا سيحدث إذا ما استفاقت هذي الأخيرة على يوم وجدت نفسها فيه أمام انهيار أكبر، بما لا يقاس بهذا الأخير، وذاك أمر وارد جداً هذا إن لم يكن حتمياً قياساً لنظرية الخطأ التقني التي ستظل قائمة ناهيك عن إمكان حدوث قرصنة كبرى قد تذهب بكل هذه الهياكل الكرتونية؟
(سيرياهوم نيوز-الوطن)