الرئيسية » مجتمع » فاطمة عطفة: الحبّ يتحدّى الطبّ والشيخوخة وهو جوهر الحياة والسعادة

فاطمة عطفة: الحبّ يتحدّى الطبّ والشيخوخة وهو جوهر الحياة والسعادة

فاطمة عطفة

ربما كانت مجرد حكاية من نسج الخيال، وقد تكون حدثا واقعيا يتحدى مقولات الطب عن العجز والشيخوخة، لكنه يذكرنا برجال كثيرين حاولوا تجديد شبابههم بالزواج من صبايا، وهم في حيطان الستين. وأعود إلى حكاية هذين العاشقين في زمن الكورونا: بعد أن تعبا من نفض الغبار المتسلل إلى رفوف الكتب القديمة،  وانتهيا من ترتيب الكتب الجديدة، جلسا يتناولان فنجانين من القهوة الشهية ومعها سيكارة مشتركة وحيدة لم يجدا في الببت غيرها. القهوة متعتهما اليومية التي لا يمكن الاستغناء عنها، مثلما يستغنيان أحيانا عن وجبة الغداء أو العشاء. ومع القهوة يروق لهما أن يرددا نفحات من الشعر مع جبران وإيليا أبو ماضي والمتنبي وصولا إلى الخنساء. وفي ختام الاستراحة، كان لا بد من حمام دافئ لإزالة غبار الكتب والتعب وأخبار الكورونا.

لم تكن ملامحها توحي بأنها بلغت الستين، وهي لا تعرف تاريخ ميلادها بدقة، لكنها تؤكد أن حفيدتها تخرجت من الجامعة، وأن ابنها البكر صار جدا، وهذا يعني أنها اقتربت من السبعين أو أنها تجاوزتها قليلا، أما صديقها فتقول إنه على بوابة التسعين، وهي حريصة أن تلغي كلمة (زوج) وتصفه بأنه صديق الزمن الجميل. الأرقام المتعلقة بسنوات العمر لا تعني شيئا، والمهم أن ندخل في صلب الحكاية، وهي أكثر من حكاية. إنها ملحمة شبه أسطورية أطلقت عليها اسم “ملحمة الاستحمام”، ملحمة لم يسمع بها هوميروس، ولا عاشها العاشق باريس ومحبوته هيلين، ذلك العشق الأسطوري الذي أدى إلى حرب طروادة وتأليف تلك الملحمة. وتبدأ حكاية الحب:

قبل أن أتوجه إلى الحمام قلت له: سأغسل شعري أولا، وإن كان مزاجك رائقا أرجو أن تتفضل وتفرك لي ظهري، (لأن وجع المفاصل لا يسمح لها بحرية الحركة لمد الذراع وفرك الظهر بالليفة) وأنا بدوري سأفرك ظهرك وأتخلص من ادعاءات البطولة وحكايات جدك عن تجديد الشباب بفضل الحب، ولو بلغ العشاق  ضفاف المئة. تأمل وجهها الجميل المشرق، واستعاد شغف جميل بثينه ولوعته، فأنشد مرددا:

وإنّي لينسيني لقاؤكِ كلّما

لقيتكِ يوماً أن أبثّكِ ما بيا

 قالت وهي تضحك بانشراح: لو كان في قلبك ذرة حب مثل جميل، كنت كتبت لي ولو قصيدة غزل تشرح الصدر. رد عليها: ما دامت القصيدة مجسدة أمامي تعيش معي نوارة مثل قمر نيسان، ما حاجتي لجميل أو مجنون ليلى وشعرهما؟ الشعر يا غالية، لا يهدينا هذا الجو الذي يغمر البيت بالسعادة، ولا يعطينا رحيق الحب ونحن في زهرة شبابنا معا.. معا، وقد تجاوز عمر حبنا المعتق حتى آخر درجات الاختمار ستين سنة! تركته مع أصحابه من الشعراء العذريين، وغابت في الحمام لتنعم بدوش الماء المنهمر على شعرها الذي يحلو له أن يمسده بأنامله، وينحني ليطبع قبلة الحب على الغرة.

تلك الحوارات الناعمة، والتي لا تخلو من قصائد الغزل غير العذري، كانت توابل يومية تزيد حياتهما في سنوات الخريف متعة تزهو بالبهجة والمرح وهدوء الخواطر. وفاجأه صوتها بنبرة عتاب: أين أنت، يا رجل؟ هل نمت أو نسيت؟

وطار إلى الحمام، تناول منها الليفة وراح يمسح ظهرها بهدوء ونعومة، كما هي عادته. لكنها هتفت محتجة بغنج: افرك بقوة، هل ختيرت؟ أثارته بكلامها ولمعت في خاطره ذكرى أول لقاء حميم بينهما. رمى الليفة، رغم صيحة احتجاجها وسرعان ما رأته واقفا معها تحت الدوش، فصاحت: هل جننت؟! ثم لم تتمالك نفسها من الضحك، والماء الدافئ ينهمر عليهما كألحان سيمفونية شهرزاد لكورساكوف، ولا يكتفي بغسل غبار الكتب، ولكنه راح يغسل عشرات السنين ويعيدهما بلمسة سحرية غامضة إلى زهوة الشباب حتى غاباعن الوجود ورقرقة الماء وعذوبة هديل شهرزاد. كان العناق والحب والتحام الحبيبين أشبه ما يكون بذوبان قطعة الجليد برحيق الكأس، تجربة تقول صاحبة الحكاية أنها – وتصحح – أنهما معا لم يشعرا بمثل تلك التجربة طوال عشرات السنين الماضية. وقد آن للحكاية أن تقف عند هذا الحد.

الدرس البليغ الذي أخذته من هذه الحكاية، ولا يمكن أن أنساه: كيف ننسى سحر الحب ونعمة الحب؟ ونحن غارقون في هموم العيش اليومي وتطور الكورونا وسفاسف الانشغال بأشياء تافهة على هامش الحياة! بالحب وحده نحيا، وبالحب وحده يزول كل خلاف، بالحب يمكن لنا أن تتلاشى صعوبات الحياة ويبقى الأمل مزهرا فقط مكللا بالصحة والسعادة وسماع أصوات بعضنا بعضا بدون اعتراض الحب وحده جوهر الحياة.

سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“اليونيسيف”: أكثر من 200 طفل قُتلوا في لبنان من جراء العدوان الإسرائيلي منذ نحو شهرين

منظّمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” تعلن استشهاد أكثر من 200 طفل في لبنان من جرّاء العدوان الإسرائيلي منذ نحو شهرين، في وقتٍ “يجري التعامل مع ...