| محمد سيف الدين
ما السيناريوهات الأكثر قدرة على تفسير تمرد فاغنر في روسيا؟ لماذا تحرك المقاتلون؟ ضد من؟ ولأي دوافع؟
مرّت عاصفة فاغنر فوق الكرملين بأقلّ الأضرار. لم تكن متوقعة في شكلها الذي جرت به، لكنها في بواعثها كانت ترجمةً فعلية لما يعتمل منذ أشهرٍ طويلة في دواخل العلاقة بين زعيم المجموعة يفغيني بريغوجين من جهة، ووزارة الدفاع الروسية ورئاسة الأركان العامة من جهة ثانية.
التحليلات حول سيناريوهات ما حدث كثيرة. بعضها توسع في تفسير تمرد بريغوجين إلى حد اعتباره محاولة انقلابٍ فاشلة في وجه الرئيس فلاديمير بوتين شخصياً، وبعضها الآخر ربط بين هذه الخطوة والمساعي الغربية المستمرة منذ بداية المواجهة في أوكرانيا لاختراق الجبهة الداخلية الروسية، وخصوصاً أن التصريحات الغربية على مدى الأشهر الماضية كانت تدعو النخبتين السياسية والعسكرية المحيطتين بالرئيس الروسي إلى التحرك ضده، ذلك أن المواجهة الميدانية لم تؤدِ إلى هزيمة روسيا، كما كانت عواصم القرار الغربية تأمل.
طائفةٌ ثالثة من المحللين ذهبت إلى استنتاجات أمنية من حركة فاغنر المفاجئة باتجاهين رئيسيين؛ الأول يقول إن ما جرى كان انفعالاً محسوباً ومخططاً له بين بريغوجين وبوتين من أجل كشف شبكات تمدد الغرب داخل هياكل صنع القرار في موسكو، فيما يشير الاتجاه الثاني إلى أن هذا الانفعال المقصود يهدف إلى توفير معطيات واقعية لانتقالٍ مبرر لنشاط فاغنر إلى بيلاروسيا، كتمهيد لفتح جبهةٍ جديدة ضد كييف انطلاقاً من الشمال.
لكن الظروف المؤدية إلى ليلة الحدث الكبير والمعطيات اللاحقة لها لا تؤيد أياً من هذه الاتجاهات بصورةٍ غير مشوبة، فلكل تفسير من هذه التفسيرات نقاط ضعفه المؤكدة التي تقوض الجزء الأكبر من خلاصاته.
ثغرات في آليات التحليل
في آليات التحليل السياسي، يجب أولاً إبعاد الفرضيات أحادية البعد، فلا يصح أن نتصور أن الأحداث تجري في بعدٍ واحد، وفي اتجاه مستقيم ومنتظم تصطف فيه الأحداث بالتوالي من نقطةٍ إلى نقطة على خطٍ زمني واحد.
الخطّ الزمني هو بعدٌ واحدٌ فقط من أبعاد مجريات الحدث، وهو هنا لا يقتصر على الثلاثية الزمنية، الماضي والحاضر والمستقبل، بل إنه كاللغة، يتضمن أزمنةً مركبة تكون لها تأثيرات في تكوين الحقيقة ونتائج الأحداث، مثل الماضي المستمر…
هكذا يكون الفهم الدقيق للأحداث -ومنها السياسية- مبنياً على تصور أنها تجري في فضاءٍ متعدد الأبعاد ومتداخل ومركب، والعلاقات بين مركباته لا تتم وفق حركةٍ رياضية، بل إنها أكثر شبهاً بتفاعل النشاط الكيميائي، بحيث يمكن لمعطى واحد نشط أن يغير اتجاه الأحداث ويغير معه طبيعة الموقف موضوع الدراسة برمّته.
لذلك، يشمل الحدث المؤثر في السياسة أو في حدثٍ سياسي كالحرب مثلاً تفاعل كل تفصيل كمركبٍ كيميائي مع التفاصيل الأخرى، التي تعدّ بدورها مركبات أخرى. وهكذا، يمكن تفسير كيف أن تؤدي كلمة واحدة في سياقٍ معين إلى تفجير أزمة كبرى، أو كيف يمكن أن يؤثر حدث أمني محدود في مسار التاريخ، والأمثلة على ذلك كثيرة.
لماذا تمردت فاغنر؟
في السيناريو الأول، وعلى الرغم من وصف الرئيس الروسي للمتمردين بالخونة، والقول إنهم طعنوا روسيا في الظهر، فإنَّ أياً من التصريحات الرسمية لم تشِر إلى أنَّ هذا التمرد كان يستهدف قلب نظام الحكم أو الوصول إلى الكرملين وإطاحة بوتين.
في المقلب الآخر، كانت لهجة بريغوجين في تعليقه على خطاب الرئيس عاتبة، عندما قال إن الرئيس أخطأ بوصف تحرك مجموعته بالخيانة، لكنه عاد وسحب التصريح، في حين نشرت مجموعات “فاغنر” في تلغرام روايةً مختلفة لكل الأحداث في اليوم التالي، مفادها أن المجموعة تحرّكت لكشف مؤامرة انقلابية كانت تجري ضد بوتين، قوامها خلايا نائمة من العملاء داخل إدارته، وأن عملية استئصالها جاريةٌ بمساعدة فاغنر، وأنه لولا هذا التحرك لما تمكن الرئيس من الدفاع عن نفسه وعن حكمه.
التطورات في الساعات اللاحقة، والروايات المختلفة الصادرة عن فاغنر، إضافةً إلى الإجراءات التي اتخذها بوتين ووزارة الدفاع، ومواقف نواب الدوما، كانت كافية لتقويض السيناريو الأول.
في السيناريو الثاني، يقف بريغوجين على يمين الشخصيات السياسية الروسية المعادية للغرب. متابعة تصريحاته ومنشورات مجموعته خلال العام الفائت تظهر بوضوح البيئة المشحونة ضد الغرب التي تحيط بعمل فاغنر ورئيسها. مجموعته تأسَّست على خطاب مناهضٍ للغرب بشراسة.
خطابه السياسي برمّته يقوم على المزايدة على المسؤولين الروس الآخرين في العداء للغرب. تحديداً خلافه مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس أركانه فاليري غيراسيموف يبرره بريغوجين باتهامه لهما بالتساهل على الجبهة، وبالفشل في إلحاق الهزيمة بالأعداء، فضلاً عن لغةٍ مختلفة ومتطرفة يتحدث بها إعلام فاغنر ضد الغرب والأوكرانيين.
يُضاف إلى ذلك أيضاً أن بريغوجين رُوِج كشيطان في الغرب، وأي استخدام له من الدول الغربية -وهو أمرٌ تفعله هذه الدول إذا ناسب مصالحها- لن يعود بالفائدة التي يتوخاها زعيم فاغنر، وهي الحصول على دورٍ سياسيٍ كبير.
لا يمكن للغرب ضمان دور سياسي لشخصية روّج بنفسه صورتها على أنَّها تمثل أقصى اتهاماته السيّئة لروسيا، لكن تريث الولايات المتحدة في إصدار عقوبات جديدة على فاغنر يخدم فكرة استدراج عرض من الأخيرة للعمل لمصلحة الغرب، وهو ما لم يحدث، فأعلنت العقوبات بعد ساعات، لكن ماذا عن تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف بأن التحقيقات في ضلوع الغرب في أحداث التمرد جارية؟ على الأرجح أنها ترتبط بفتح الخيارات للقيادة الروسية للتعامل مع فاغنر والحالات الشبيهة مستقبلاً.
إن ترك الباب مفتوحاً لتأويل الحدث يمثل مصلحةً روسية في الوقت الحالي، ويمكن أن يكون مفيداً في الأشهر المقبلة أو في حالات أخرى قد تحدث. ومن بداهة الأشياء أن تحقق دولة تعرضت لتمردٍ خطرٍ إلى هذه الدرجة في امتداداته وقياداته والمصالح التي يخدمها.
ويضاف أيضاً إلى الأسباب التي تؤدي إلى استبعاد فرضية الاختراق الغربي عبر فاغنر أن الأخيرة تضطلع بأدوارٍ شديدة الحساسية ضد الغرب في غير مكانٍ من العالم، لا سيما أفريقيا. هذه الأدوار تحقق مصالح روسية عالية الأهمية، آخر إشاراتها اتهام الرئيس الأميركي جو بايدن لفاغنر بالمسؤولية عن طلب مالي رسمياً إنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة لديها واستبدالها بالوجود الروسي في البلاد. وفي أفريقيا الوسطى والكونغو والسودان وليبيا وغيرها، ثمة أدوارٌ تنفي بصورةٍ واضحة فرضية الاختراق الغربي.
في السيناريو الثالث، شاعت فرضية أن يكون كل ما جرى ارتساماً لخطة خبيثة من بوتين، منسقة مع بريغوجين، ومتعددة الأهداف. من ناحية، هي تفيد في نقل فاغنر إلى بيلاروسيا لتقريبها من العاصمة الأوكرانية، تمهيداً للدخول إليها. ومن ناحية ثانية، هي حركة داخلية تكشف المؤامرة على الكرملين وأشخاصها. أما من ناحيةٍ ثالثة، فهي مخطط لتظهير الطموحات السياسية المستقبلية عند النخبة المحيطة بالرئيس الروسي. كلها احتمالات رسمت وحُكي عنها على نطاقٍ واسع.
لكن بالنظر إلى أحداث الأشهر الماضية، والعلاقات المتوترة بين بريغوجين ومسؤولي وزارة الدفاع والجيش، وامتداد نفوذه إلى مواقع حساسة داخل الهيكل العسكري الرسمي، فإن الخلافات حقيقية ولها معطياتها التي كانت دائماً مادةً دسمة للإعلام الغربي وللنقاش الروسي الداخلي على حدٍ سواء. وقد طال الحديث عنها العام المنصرم بصورةٍ أكثر تحديداً.
إلى جانب ذلك، فإن طبيعة الأحداث التي جرت تنفي ضمنياً احتمال الخديعة، ذلك أن الأمر مسَ هيبة الدولة وصورتها، وكاد يمسّ استقرارها السياسي والأمني في الداخل، وهي نواحٍ لا يمكن المخاطرة بها في لعبةٍ أمنية أو إعلامية مدروسة.
إنها مركبات لحدث يمكن أن ينفلت من أيدي المخططين ليتحول إلى أحداث تاريخية في روسيا، كأن تتحرك قطاعات عسكرية داعمة للتمرد، أو أن يجد هذا الأخير تأييداً شعبياً، وأن يكتسب هذا الاتجاه الشعبي زخماً متسارعاً خلال ساعات، الأمر الذي يؤدي بأي مخطِطٍ إلى فقدان المبادرة، وبالتالي تتحول الخديعة إلى حقيقة.
بوتين لا يمكن أن يخاطر بالأمن الوطني لروسيا، وبالأمن السياسي لنظام حكمه. كما أن نقل فاغنر إلى بيلاروسيا بصورةٍ علنية أمرٌ متاح لا يستوجب خديعةً كبرى. أي لعبةٍ أمنية تلك التي حازت أعلى نسبة من ترجيحات المتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي، وجزءاً واسعاً من آراء المحللين والنخب؟ ليس هذا ما حدث، هكذا تقول المعطيات.
إقالة شويغو.. التحليل الصحيح
ناشد بريغوجين الرئيس الروسي مراراً التدخّل في قراراتٍ متعلقة بالعملية العسكرية في أوكرانيا. اشتكى الرجل كثيراً من أداء وزارة الدفاع ورئاسة الأركان. قبل أشهر قليلة، أجرت الدفاع الروسية تغييراً في مسؤوليات القادة العسكريين في العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
تسلم قيادة العملية رئيس الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف، وأبعد عن قيادتها الجنرال سيرغي سورافيكن، الذي يوصف بأنه مقرب إلى بريغوجين وعلى تناغم مع فاغنر. سورافيكن كسب سمعة حسنة من أدائه العسكري في سوريا، حيث ترأس مهمة التدخل الروسي. هذا النسق من القيادة يفضّله بريغوجين، لكن وزارة الدفاع لديها رأي آخر.
حين أمسك غيراسيموف بزمام الأمور بنفسه، بدأت مرحلة تقليص أدوار فاغنر في الحرب الأوكرانية، وذلك قبل أشهرٍ من حسم معركة باخموت. صراخ بريغوجين في الأسابيع الأخيرة من المعركة وطلبه الأسلحة والأموال من وزارة الدفاع، ثم شنّه الهجوم تلو الآخر على شويغو وغيراسيموف كان بسبب ذلك. تلويحه أيضاً بالانسحاب من المعركة كان في السياق نفسه.
ومع نهاية المعركة الدموية في باخموت، كانت إجراءات الدفاع قد اكتملت. عرضت على بريغوجين اقتراحات لمتابعة أدواره في الحرب وفي المنظومة العسكرية الروسية. أكثرها أهمية مرتبط بالانضباط وبالتزام مقاتليه بعقودٍ مع وزارة الدفاع، سعياً من الأخيرة للحد من تعدد مصادر السيطرة على الجبهة، وهو أمر عانته مع وجود فاغنر، إلى جانب معاناتها من تصريحات غير منضبطة كانت دائماً تصدر عن بريغوجين، وكان وقعها على الجنود في الجيش الروسي سلبياً، ذلك أن قادتهم الكبار كانوا يتعرضون بصورةٍ مستمرة لتصريحاتٍ مهينة.
حركة التمرد كانت يائسة من رجل ميدان لا سبيل لديه لأذى خصومه سوى الميدان. هو المساحة التي نجح فيها، وكان طبيعياً أن يلجأ إليها حين شعر بالعجز وباقتراب نهاية الإجراءات التي تبعد مجموعته عن أوكرانيا. نظرة بريغوجين إلى المواجهة مع الغرب كانت محدودة وغير واعية بالتخطيط الاستراتيجي الروسي لها.
ركّز كثيراً على النواحي العسكرية الميدانية، ولم يفهم موقف وزارة الدفاع في الكثير من المعارك. تقنين استخدام الأسلحة، وانتقاء المعارك، والانسحاب من جبهات، والهجوم على أخرى، واختيار التوقيت المناسب للمسار السياسي للمواجهة، وإراحة بوتين في الميدان حين تفرض التطورات العالمية ظروفاً معينة، كلها معطيات لم يقدّرها بريغوجين جيداً، ما دفعه إلى مواجهة الرئيس شخصياً.
على الأرجح، قدّر بريغوجين أنَّ حركته ضد وزارة الدفاع ستبقى تحت سقف بوتين المسموح بها من التنافس والصراع بين القادة، لكن حركته اليائسة من انتصار شويغو عليه كانت مبالغة في العنف، ووضعت بوتين أمام ضرورة التصرف بقسوة، نظراً إلى المعطيات التي ذكرناها في تفصيل السيناريو الثالث. تحليل المفكّر ألكسندر دوغين يتفق أيضاً مع فرضية أن كل ما حدث كان حقيقياً. المشهد حقيقي، والمواقف حقيقية.
فاغنر الآن خارج روسيا بمقاتليها وإعلامها وقائدها. أمرٌ رئاسيٌ لا رجعة فيه. لكن فاغنر في الخارج، في أفريقيا مثلاً، مسألةٌ أخرى تحتاج إلى بحث مختلف.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين