الرئيسية » ثقافة وفن » فان غوخ.. “مسكين” بين الكتب والسينما

فان غوخ.. “مسكين” بين الكتب والسينما

| يوسف م. شرقاوي

لا تزال حياته حدثاً تاريخياً يحاول كتّاب ومؤرّخون وصنّاع أفلام أن يلمّوا بتفاصيلها.. ماذا تعرفون عن فنسنت فان غوخ؟

لا يزال فنسنت فان غوخ، الذي وُلد يوم 30 آذار/مارس 1853، أي قبل 170 عاماً، إنساناً وفناناً له سيرة حياة غريبة لا يحاول الناس القبض عليها فحسب، بل إنّ حياته نفسها أيضاً، لسببٍ من الأسباب، تُعَد حدثاً تاريخياً مهماً.

يحاول الناس، ومنهم كتّاب ومؤرّخون وفنّانون وصنّاع أفلام وموسيقيّون، أن يلمّوا بتفاصيل هذا الحدث المهم، مأخوذين بشيءٍ ما يجهلونه، شيء يشبههم، ولا يلبث، دائماً، أن يفلت منهم، فينبشون السيرة من جديد. إنّ لمحة عن عدد الروايات والكتب والأفلام المستلهمة من حياة فنسنت أو المبنيّة على شيءٍ من أعماله أو رسائله إلى أخيه ثيو، تؤكّد ذلك.

بالنسبة إلى البعض، فإنّ فنسنت فان غوخ (1853 – 1890) خرج عن السياق الطبيعيّ الذي يجب أن يكون عليه إنسانٌ ما في العالم، بينما بالنسبة إلى أنطونان آرتو، صاحب “المسرح وقرينه”، فإنّ الذي خرج عن السياق الطبيعيّ ليس هو الإنسان (فان غوخ)، بل العالم.

إلى جانب ذلك، تقبض سيرة فنسنت الغريبة على القلب، لأنه يمكن أن يصنع إنسانٌ واحد منها عدّة سير موازية مفترضة وتخييلية. إذ يمكن تخيّل فنسنت مبشراً بروتستانتياً أمضى حياته في ذلك، أو عاشقاً محطماً أمام أورسولا لم يتمكن من العثور على حياته، إذ “دائماً ما خرج من قصص الحب محمَّلاً بالعار”، كما كتب مرة إلى شقيقته، أو صديقاً مهجوراً أمام غوغان. وتبقى الحسرة الحقيقية الأكبر في كونه الرسّام الذي لم يبع طوال حياته إلّا لوحة واحدة، وبعد موته صارت قيمة لوحاته تقدر بملايين الدولارات.

الرواية الكلاسيكية

يروي إيرفينج ستون، في روايته “فنسنت فان غوخ، الرواية الكلاسيكية لحياة عاشها “بين الشهوة والحرمان”، قصة فنسنت من بدايتها حتى آخرها ببعض “الإباحات الفنية”، كما يقرّ في ملاحظته في نهاية الرواية. وفي ما عدا هذه الإباحات القليلة، فإنّ الكتاب الذي اعتمد ستون في كتابته رسائل فنسنت إلى أخيه ثيو، في 3 مجلدات، وتجواله في أثر فنسنت عبر هولندا وبلجيكا وفرنسا، صحيحٌ بكليته. يقسم ستون كتابه بعد المقدمة عن وجود فنسنت في لندن، إلى 8 كتب، هي عناوين مدن أو مناطق، بحسب وجود فنسنت فيها.

غير هذه الرواية، التي تُعَد وثيقة، يمكن العثور على سيرة فنسنت، التي صارت معروفة بغرابتها ويتلقّفها الجميع، في كتاب شاكر عبد الحميد “الدخان واللهب، عن الإبداع والاضطراب النفسي”، والذي يحوي فصلاً مطولاً عن فان غوخ، “الحزن الذي يدوم إلى الأبد”. ومثله كتاب شين كونولي “حياة فنسنت فان غوخ وأعماله”، وغيرهما من الكتب المخصصة للأطفال أو المنشورة في سلاسل عالمية عنه.

في الطرف الآخر، يحلل الكاتب فرانسوا بينارد ميشيل، ما كان يدور في عقل فنسنت وقلبه، من خلال لوحاته ورسائله إلى أخيه ثيو، في كتابه “فان غوخ، نفسية العبقري الذي أُسيء فهمه”.

لا تزال السيرة، بصفتها حدثاً، تلقى اهتماماً وشكوكاً وروايات بديلة. آخرها عام 2011، إذ نشر الصحافيان ستفين نايفي وجريجوري سميث كتاباً عن فنسنت، اسمه “فان غوخ، الحياة”، يقولان فيه إنّ فنسنت لم ينتحر، وإنما أطلق النار عليه مراهقٌ محلي. منذ ذلك الوقت، تلقى هذه النظرية صدىً، إذ في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، نُشر مقال في مجلة “فانيتي فير”، أشار فيه الخبراء القانونيون إلى عدة تأكيدات لنسخة نايفي وسميث بشأن حقيقة وفاة فنسنت.

فان غوخ كاتباً وقارئاً

صدر عام 2017، عن “الكتب خان”، كتاب أو أنطولوجيا تضم 265 رسالة من مجمل 903 رسائل تركها فنسنت. يعلّق الشاعر الهولندي توماس مولمان على هذه الرسائل، بالقول إنّ قيمة فنسنت الأدبية، كما تتجلى في رسائله، تضاهي قيمته الفنيّة كمصور ورسام، أو قد تفوقها.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ فنسنت كان “دودة كتب شرهة”، وفق التعبير الشائع، ومطّلعاً على الإنتاجات الأدبية ومتابعاً لها. للكتب، وحدها، حصة كبيرة من سيرته، دفعت ماريلا جوزوني إلى أن تكتب كتابها “كتب فنسنت فان غوخ والكتّاب الذين ألهموه”، والصادر عن دار نشر جامعة شيكاغو في شباط/فبراير 2020.

في رسالة من فنسنت عام 1880، يقول: “لقد فضّلتُ الحزن الذي يأمل ويطمح ويبحث عن المرء اليائس والمخذول. لذا، قرأتُ الكتب التي كان عليّ أن أتعامل معها بجدية، كـالكتاب المقدس و”الثورة الفرنسية”، لجول ميشليه، وفي الشتاء الماضي، قرأتُ شكسبير وقليلاً من فيكتور هوغو وديكنز وبيتشر ستو”.

من فحصها لرسائل فنسنت، تكتب جوزوني عن الكتب أو الكتّاب الذين لهم تأثير في سيرة فنسنت أو مراحل منها، مثل جان فرانسوا ميليه، ورواية “الصديق الوسيم” لموباسان: “فأنا في حاجة قبل كل شيء إلى مجرد الحصول على ضحكة حقيقية. لقد وجدتُ ذلك في غي دي موباسان”. وإلى جانبه، نصح فنسنت أخته الصغيرة بقراءة كتّاب الطبيعة الفرنسيين مثل إميل زولا وإدمون دو غونكور. أما مؤلفه البريطاني المفضل، ورفيقه في أحلك لحظات حياته، فكان تشارلز ديكنز.

“المسكين”، منتحر المجتمع

حين كتب أنطونان آرتو، قبل وفاته بأشهر، كتابه عن فان غوخ “منتحر المجتمع” عام 1947، كان يكتب نفسه، ويدافع عن نفسه، دفاعه عن فنسنت. يصرّ آرتو على أنّ فنسنت رسام أكثر من جميع الرسامين، لأنه من دون الذهاب أبعد مما نسمّيه الرسم، أصبح يفتن الطبيعة والأشياء، بحيث لم يعد في مقدور حكاية رائعة لإدغار آلان بو وهيرمان ملفيل وغيرهما، أن تذهب أبعد، على المستويين النفسي والمأسوي، من لوحاته رخيصة الثمن.

إنّ أعمال فنسنت، وفقاً لآرتو، صاحب مسرح القسوة، لا تهاجم الأعراف السائدة فحسب، بل المؤسسات نفسها أيضاً. وحتى الطبيعة الخارجية، بكل ما فيها، ما عاد في إمكانها، بعد مرور فان غوخ في هذه الأرض، أن تحافظ على الجاذبية نفسها.

في دفاعه، يكتب آرتو عن فنسنت أنه توصل واكتشف ما كان عليه ومَن كان، عندما أقدم الضمير العام للمجتمع، على دفعه إلى الانتحار، من أجل معاقبته لأنه انشق عنه.

إنّ كل معرض للوحات فان غوخ هو دائماً حدث مهم في التاريخ، لأنّ “لا مجاعة، ولا وباء ولا زلزال ولا حرب، ولا شيء يقلب جوهر الهواء، ويقصف وجه القَدَر الغاضب الجامح، والمصير العصابي للأشياء، كلوحة لفان غوخ”.

لا شيء سوى رسام فان غوخ، يقول آرتو. لكن، لفهم زهرة دوار الشمس في الطبيعة، وكذلك لفهم إعصار في الطبيعة، سماء عاصفة، سهل، لا يمكن، بعد الآن، إلا أن نعود إلى فان غوخ.

يثأرون من حجر الرسم الذي حمله فنسنت المسكين المجنون في عنقه طوال حياته، من دون أن يعرف لماذا وإلى أين. أمّا جواب آرتو عن هذا، بالأصالة عن نفسه وبالإنابة عن فنسنت، فهو: “ليس لهذا العالم، وليس أبداً لهذه الأرض، عملنا كلّنا دائماً، وصارعنا، وصرخنا من الرعب والبؤس والحقد والفضيحة والاشمئزاز، ومن هذه الأشياء كلّها تسمّمنا جميعاً، مع أننا كنا جميعاً مسحورين بها، وانتحرنا أخيراً، لأننا كلنا معاً، كفان غوخ المسكين نفسه، مُنتَحِرو المجتمع!”.

بورتريهات سينمائية

موت فنسنت في عمر 37 عاماً، والتفصيلات الغريبة، وكذلك احتمالات التخييل لسيرته، جعلت صنّاع السينما يحاولون الإمساك بحكايته، أو قولبتها، أو تبيان أثرها، في أفلام واقعية أو وثائقية أو خيالية، بدءاً من فيلم آلان رينيه Van Gogh عام 1948، ثم فيلم Lust for life لفنسنت مينيلي، المبني على رواية إيرفينج ستون عام 1956، وفيلم بول كوكس The Life and Death of Vincent Van Gogh، عام 1987، وفيلم روبرت ألتمان الطويل Vincent & Theo عام 1990، أو فيلم الياباني أكيرا كوروساوا dreams في العام نفسه، ثم فيلم موريس بيالا Van Gogh عام 1991، مروراً بفيلم Van Gogh, painted with the words، عام 2010، والمبني تماماً على كل كلمة قالها أو كتبها فنسنت. بعدها نمر بفيلم المخرجين دوروتا كوبيلا وهيو ويلشمان المرسوم بالكامل بالألوان الزيتية، Loving Vincent، عام 2017، إلى فيلم جوليان شنابل At Eternity’s Gate عام 2018.

كلّ هذا كانه فنسنت، المنتحر أو المقتول، الكاتب أو القارئ أو الرسام، العبقري الذي أُسيء فهمه، أو الحزين الذي يدوم حزنه إلى الأبد، ولأنه كان أكثر من شيءٍ واحد، فإننا لا نزال نحاول القبض على ذلك الشيء الغريب والمدهش في سيرته، حتى اليوم.

 

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بعد غياب طويل.. دمشق تحتضن مهرجان المسرح الجامعي

تنطلق، مساء اليوم، فعاليات الدورة الثامنة والعشرين من مهرجان المسرح الجامعي الذي تستضيفه دمشق على مسرحَي الحمراء والقباني التابعين لمديرية المسارح والموسيقا، حيث تتنافس فرق ...