| فراس عزيز ديب
في الصراع بين فكر الأديب الفرنسي الجنسية والجزائري المولد ألبير كامو، ومصداقية الفيلسوف والروائي الفرنسي جان بول سارتر، حول الاحتلال الفرنسي للجزائر، هناك مساحة واسعة من التناقضات قد تبدو فعلياً انعكاساً حقيقياً لطبيعة العلاقة حتى يومنا هذا بين البلدين، كامو الذي رفضَ الاستعمار شكلاً ودافع عنهُ مضموناً، كان يرى بالوجود الفرنسي في الجزائر ضرورة أخلاقية وإنسانية على الأقل كي لا يشاهد كلَّ صباح «أطفالاً بثيابٍ رثَّة يُنافسون الكلاب على بقايا حاويات القمامة»، وفق زعمه، أما سارتر فكان ضد الاستعمار شكلاً ومضموناً، لدرجةِ أن مؤلَّفهُ الأشهر «عارنا في الجزائر» عرَّى مفهوم الاستعمار ليصبحَ أشبهَ بأيقونةِ صدقٍ تعكس الدور الحقيقي للمثقف في قول الحقائق كما هي بعيداً عن التجميل، حتى لو كان هذا الدور سبباً لكي يدفع المثقف أثماناً غالية على جميعِ المستويات.
ربما لا يعرف العالم حالياً علاقة أكثر تعقيداً من العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية سواء أكانت على المستوى الشعبي أم الرسمي، فالعلاقة بدأت في عام 1830 عندما أطاحت القوات الفرنسية بحكم الإجرام العثماني في الجزائر لتبدأ هذه العلاقة بين دولة احتلال هي فرنسا ودولة محتلة نال أبناؤها الاستقلال بالحديدِ والنار ودفعوا لأجلِ ذلك الغالي والرخيص، تناقضٌ استمر حتى وقتنا الحالي عبر أجيالٍ من الجزائريين ولدوا وترعرعوا في فرنسا لكنهم مازالوا قادرين على «التصفير» عند عزفِ النشيد الفرنسي حتى في مباراة كرة قدم! هل هو نوع من الانفصام في تحديد الانتماء؟!
لكن حال الفرنسيين الذين وُلدوا في الجزائر لا يبدو أفضل، هؤلاء ما يُطلق عليهم مصطلح «الأقدام السود»، هم أبناء المستعمرين أو المستوطنين الذين جلبتهم فرنسا خلال عقود احتلالها للجزائر لضمانِ «فرنَستها»، كانوا ولا يزالون يرون في الجزائر ذاك الفردوس المفقود وبأملاكهم التي استولى عليها من استولى بالحق الذي يجب أن يعود، بل إنهم يَسعون بكل ما أُوتوا من قوةٍ لضمان ذلك، هذهِ المقاربة التاريخية لحجم التناقضات التي لا نراها في دولٍ ثانية تحررت من الاستعمار تبدو ضرورية قبلَ الحديث عن نتائج الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر التي كانت مادة دسمة للتعاطي معها بثلاث مناح:
أولاً – على المستوى الشعبي: مبدئياً لا يمكننا القول إن هذهِ الزيارة ستضع حدَّاً للتضاد بين الجانبين، تبدو النظرة الاجتماعية متباعدة حيث يرى الجزائريون أن فرنسا مسؤولة شكلاً ومضموناً عن كلِّ المجازر التي حدثت وهي مُطالبة باعتذاراتٍ رسمية بما فيها المجازر التي تمت عبر تجارب الأسلحة المحرمة دولياً، بل إن من قاموا بهذهِ المجازر لم يتعرضوا للمحاكمات بل أصبحوا رجال سياسةٍ أمثال جان ماري لوبين، مؤسس الحزب اليميني المتطرف، الحديث عن المجازر لا يتلخص فقط بمجازرِ الإبادة والتصفية بل يتعداهُ إلى مجازرِ بالاقتصاد الجزائري من نهبٍ للخيرات وغيرها حيث لم تسلم من هذهِ المجزرة حتى الأوقاف الإسلامية التي تمت مصادرتها لمصلحة الدولة الفرنسية.
هذه النظرة وإن كانت تمتلك الكثير من الحقائق، إلا أنها باتت عبئاً على الجزائريين فالكثير من الفرنسيين أصحاب النظرة المتوازنة في التعاطي بعيداً عن العنصرية أو كراهية الغير والذين يعترفون بأخطاء فرنسا في الجزائر، يرون في الجهة المقابلة أن هناك من يبالغ بتحميل فرنسا مسؤوليةَ كل شيء فيطرحون ذات التساؤل لكن بصورةٍ معاكسة: خرجت فرنسا من الجزائر بتاريخِ الخامس من تموز 1962 عبر إعلان بيان الاستقلال الذي تلاه الجنرال شارل ديغول، ما الذي تبدل منذ ذاك التاريخ على مستوى الدولة؟
هناك من يذهب أبعد من ذلك بمقارنة وضع دول الخليج بالجزائر من حيث الاستفادة من تطويع الثروات الباطنية لخدمات التنمية فهل نجح الجزائريون في ذلك؟ إن كان الجواب لا، فهذا يعني أن الاستعمار الفرنسي كان جزءاً من المشكلة وليس المشكلة كلها، هنا على الجزائريين التفرغ لحل هذه المشاكل بدلَ الاستسلام للماضي، أما إن كان الجواب نعم فلماذا لا يزال الكثير من الجزائريين ضحايا الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، حتى في المجال الأهم أي التعليم والبحث العلمي فإن فرنسا ذات نفسها كانت ولا تزال محطَّ اهتمامٍ وطموح للطلبة الجزائريين وهو ما عبَّرَ عنه ماكرون بالحديث عن رفعِ أعداد المنح المعطاة للطلاب الجزائريين، فلماذا لم تنجح الجزائر في خلق ذات البيئة عبر سنواتٍ من التحرر؟! إذن يبدو الجانب الفرنسي وكأنهُ نجح بتسويق الفشل الجزائري بصورةٍ غير مباشرة مقابل النجاح الفرنسي على المستوى الشعبي.
ثانياً – على المستوى الأمني: يتخذ الأوروبيون من الواقعيةِ السياسية نهجاً عندما يتعلَّق الأمر بالتعاونِ الأمني مع الدول الإسلامية أو العربية عامةً والمَغَاربية خاصةً، هذا التعاون كان في السابق يتحدث عن معلومات تتعلق بتنظيم القاعدة في المغرب العربي وارتباطاتهِ مع فرنسيين من أصول مَغَاربية قد يجهزون لعمليات إرهابية في العمق الأوروبي، يومها كان الأوروبيون يظهرون بمظهر الضحية كما كل الدول التي ضربتها نيران الإرهاب، لكن هذه الحقيقة سقطت عند دخول «ناتو» إلى ليبيا، ويومها رقص الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي على صيحاتِ «جيش محمد سوف يعود» التي كان ما يسمى الثوار في ليبيا يطلقونها هناك فرحاً بسقوط طرابلس، مع التأكيد هنا أن تنظيم القاعدة في المغرب العربي كان قد صرح يومها عبرَ مسؤولة الإعلامي المعروف باسم صلاح أبي محمد حتى قبل سقوط معمر القذافي رحمه الله، بأن التنظيم في ليبيا وسيقيم إماراتٍ إسلامية فيها حتى يتمكن من جعلها إمارة موحدة، إذن من أولئك الذين دعمهم ناتو؟!
بذات السياق لا يمكن لأحد أن ينسى تبني الفرنسيين لشخصيةِ الإرهابي المهدي حاراتي الذي قاتلَ في سورية مع لواءِ المقاتلين الليبيين الذين دربتهم فرنسا في ليبيا، وتم إرسالهم إلى الشمال السوري بتمويل قطري وتسهيلات تركية، بل كان صاحب اليد الطولى في وصول صواريخ «ميلان» الفرنسية إلى أيدي الجماعات الإرهابية التي استولت على خان العسل في عام 2013، يومها عزَت مصادر أمنية فرنسية وصول هذا السلاح إلى طرفٍ ثالث قد يكون القطري أو التركي، من هنا قد نفهم بأن فكرة التعاون الأمني مع الأوروبيين هي فكرة مطاطة لا تبدو وكأنها تستند للواقع إذ لا يمكن لمن تورطَ في دعمِ الإرهاب أن يدَّعي الحرصَ على محاربته، لكن يبقى الشق الأهم وهو المتعلق بالدولة التي باتت اليوم تمتلك أهم داتا معلومات عن الإرهابيين الذين يغردون خارج سياق الدعم الغربي والحديث هنا عن سورية، هل طلبَ ماكرون وساطة جزائرية فيما تتعلق بإرهابيين فرنسيين لدى السلطات السورية؟ ربما لن يتأخر الجواب حتى يصل ولو بشكلٍ غير مباشر.
ثالثاً – الجانب الاقتصادي: عندما أعلن الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول استقلال الجزائر قالَ كلمته الشهيرة: «لا قيمة للسياسة إن كانت خارج الواقع»، هذهِ العبارة تبدو عملياً طريق عملٍ تنتهجه اليوم جميع الدول الأوروبية، تحديداً في ظل الواقع الاقتصادي الملتهب الذي تعيشهُ القارة العجوز التي باتت تتخذ مناحي متصاعدة دفعت الرئيس الفرنسي ذات نفسه للقول: «زمن الرفاهية في أوروبا قد انتهى»، ربما علينا أن نعترف بأن الواقعية التي يتمتع بها قادة الرأسمالية المتوحشة في التعاطي مع هكذا أزمات يُحسدون عليها، قد تبدو المصلحة العليا للدول فوق كل الشعارات، هذا الأمر شاهدناه مسبقاً في وصول الرئيس الأميركي جو بايدين إلى المملكة العربية السعودية لذات السبب، لكن هذا الأمر يبدو أيضاً في العلاقة مع الجزائر بما فيها ما يحكى عن جعل الغاز الجزائري بديلاً للغاز الروسي، ربما هنا بيت القصيد في فهم هذه الزيارة مهما حاول الفريق الإعلامي للرئيس ماكرون إبعاد هذه الفكرة عن الهدف الحقيقي للزيارة، وبمعنى آخر جوهر هذه الزيارة هو الاقتصاد ولا شيء آخر، حاول ماكرون بشكلٍ غير مباشر إعطاء بعض المزايا للجزائريين على أمل الحصول على ما يريد، فهل تم ذلك؟
بمعزل إن كان تم أم لا، هذا شأن جزائري لا نتدخل به، لكن بالعودة للتاريخ فقد قيلَ إن السلطات العسكرية الفرنسية استخدمت إبداعات ألبير كامو الأدبية في تسويق الاحتلال وتبرير ممارساتهِ لدرجةٍ جعل فيها ممارسات الاستعمار حميدة من منطلق حضاري، اليوم تبدو فرنسا بحاجةٍ لألبير كامو جديد يقوم بتسويق الواقعية الفرنسية حتى في لحظات التسول، لكن مهما حدث لن يستطيع كامو الجديد أو القديم مسح ما قالهُ جان بول سارتر يوماً بعنوان مختصر: «عارنا في الجزائر»!
سيرياهوم نيوز3 – الوطن