سعيد محمد
الحرب في شوارع غزّة، لكن مواجهات موازية تحدث على امتداد العالم وبأشكال متعدّدة بين حلفاء الصهيونية من جهة، والمتعاطفين مع فلسطين من جهة أخرى. النسخة الفرنسيّة من كتاب المؤرخ اليساري (الإسرائيلي) إيلان بابه المفصلي عن «التطهير العرقيّ في فلسطين»، كان ساحةً أخرى للتجاذب بعدما نفدت النسخ من الناشر الفرنسي (فايار) وامتنع عن تأمين طبعة جديدة، بحجّة أنّ عقد الكتاب مع الناشر الأصلي ومالك الحقوق (دار «وون وورلد» البريطانيّة) انتهى منذ شباط (فبراير) الماضي.
كثيرون، ومنهم بابه، البروفيسور في «جامعة إكستر» في المملكة المتحدة، اعتبروا أنّ الناشر الفرنسي خضع لضغوط اللوبي الصهيونيّ في بلاده، وأنّ محاولة وأد الكتاب ليست إلا وجهاً آخر من أعمال الرقابة المتعسّفة التي تستهدف المحتوى المتعلّق بفلسطين بكل أشكاله والانتكاسة الصادمة للقيم الديموقراطيّة المزعومة في جمهوريّة الأنوار. نقل موقع «فلسطين كرونكيل» عن بابه قوله: «في الماضي، أحرقت أوروبا الكتب التي لم ترد للناس أن يطّلعوا عليها. في القرن الحادي والعشرين، يمتنعون عن طباعتها فقط لكن النتيجة واحدة. اليوم يتعلق الأمر بفلسطين، وغداً سيكون عن الجرائم الفرنسية في الجزائر، وبعد ذلك عن العنصرية في فرنسا الحديثة، وهكذا».
لحسن الحظ، فقد تجرّأ ناشر فرنسيّ آخر على تولّي المهمّة، وتأمين «التطهير العرقيّ في فلسطين» للقرّاء الفرنسيين. إذ توافقت «دار لا فابريك»، الفرنسية اليسارية المتخصّصة في كتب الفلسفة والتاريخ والسياسة، مع «وون وورلد» على إعادة نشر الكتاب بنسخته الفرنسيّة وتوزيعه في فرنسا قبل منتصف العام المقبل. وللمفارقة، فإنّ مؤسس «لا فابريك» التي نشرت العديد من الكتب عن القضية الفلسطينية، بما فيها بعض أعمال الراحل إدوارد سعيد ونورمان فلنكستين، يهوديّ مهاجر إلى فرنسا.
يصنّف بابه (مواليد 1954) أكاديمياً ضمن تيار المؤرّخين الإسرائيليين الجدد الذين ظهروا بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي بعد سنوات قليلة على إزالة السريّة عن الوثائق الرسميّة الإسرائيليّة المتعلّقة بحرب 1947- 1948 ومرحلة الإعلان عن قيام الدولة العبريّة. نجح هؤلاء في إثارة الكثير من الجدل داخل الكيان المؤقت، وعبر العالم، بعدما بنوا، من زوايا مختلفة، أجزاء من سرديّة نقيضة للسرديّة الرسميّة الصهيونيّة السائدة عن تلك اللحظات المفصليّة من تاريخ فلسطين والشرق الأوسط. وقد أصدر بابه كتباً عدة هامة في هذا السياق تعدّ في مجموعها مصدراً لا غنى عنه في أي محاولة لفهم طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين، وتفكيك تراكم الروايات التاريخيّة المؤدلجة عن سير الأحداث منذ انطلاقها نهايات القرن التاسع عشر. لكن أكثرها أهميّة قد يكون «التطهير العرقي في فلسطين» (2006) الذي كشف فيه تفصيلياً عن سياسات استراتيجيّة صهيونيّة ممنهجة منذ بدء الاستيطان حتى لحظة إعلان «استقلال إسرائيل» لتطهير فلسطين عرقيّاً، وطرد سكانها الأصليين. أمر يرى بابه أنّه ما زال ديدن السياسات الإسرائيلية إلى اليوم. لقيت كتابات بابه قبولاً واسعاً، وأثارت الكثير من الجدل ومشاعر الصدمة في المجتمع الإسرائيلي، لكنّها أيضاً تسببت في تعرّضه لموجة من الانتقادات والتعنيف التي وصلت إلى حدّ التهديد بالقتل، وحتى الإدانة من الكنيست الإسرائيلي والصحف العبريّة، ما اضطره إلى ترك منصبه الأكاديمي في «جامعة حيفا» العبرية عام 2008، لينتقل من هناك إلى المملكة المتحدة، حيث يدرّس التاريخ في «جامعة إكستر» ويرأس «المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية».
رغم مشارفته عقده السبعين، لا يزال بابه ناشطاً في العمل السياسي والثقافي حول القضية الفلسطينية، ويدعم تياراً من مثقّفين غربيّين وفلسطينيين ويهوداً يتبنى حلّ «الدّولة الواحدة» أي قيام دولة ديموقراطيّة موحّدة للفلسطينيين والإسرائيليين، ويؤيّد جهود المقاطعة الأكاديمية للدولة العبريّة.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية