سعيد محمد
لندن | بعد ستة أيام على الاضطرابات في فرنسا، يَظهر أن الأجهزة الأمنية بدأت تستعيد زمام المبادرة تدريجيّاً، إذ نُشرت قوات خاصة محمولة على عربات مدرعة في مارسيليا وليون، وأُغلق شارع الشانزليزيه في باريس وشوهدت فيه قوات مسلحة ببنادق قتاليّة، وجرى تناقل أنباء عن وقف جزئي لخدمات الإنترنت. وتمخّضت هذه القرارات عن اجتماع أزمة عقده الرئيس إيمانويل ماكرون مع كبار وزرائه لوضع خطط تخوّل الدولة استعادة السيطرة الأمنية. ويتحدّث مطّلعون عن توجّه الحكومة إلى ممارسة ردّ حازم على الاضطرابات التي أطلقها إقدام شرطي على إعدام شاب فرنسي من أصول جزائرية، يبلغ 17 عاماً، وذلك لدى توقيفه في إحدى ضواحي العاصمة
عقد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وكبار وزرائه، خليّة أزمة، مساء الأحد، للتداول في سبل التعامل مع الاضطرابات التي تهزّ البلاد، منذ مقتل شاب فرنسي من أصل جزائري على يد شرطة المرور، من دون مبرّر قانوني. وتحوّلت مشاعر الغضب العفوية للشبّان في الأحياء الفقيرة، على هوامش المدن الكبرى، سريعاً إلى واحدٍ من أسوأ أعمال الشغب والتخريب والنهب التي شهدتها البلاد منذ انتفاضة عام 2005. وعلى رغم أن تفاصيل القرارات التي اتّخذها المجتمعون – ومن بينهم رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، ووزير الداخلية جيرالد دارمانين، ووزير العدل إريك دوبوند موريتي – لم تُعلَن، إلّا أن مطّلعين على أجواء الخليّة قالوا إن الحكومة ترزح تحت ضغط شديد للسيطرة على الاضطرابات بسرعة، وإبقائها محصورة في إطار ثقافي وعرقي مرتبط بالفرنسيين من أصول شمال أفريقية، لتجنّب عدوى انتقالها إلى سائر الفرنسيين الفقراء. وكان من أول الإجراءات التي بدا أنها تمخّضت عن اجتماع الأحد، الاتجاه إلى نشر سبعة آلاف جندي إضافي في العاصمة باريس لحماية وسطها التجاري ومؤسّسات الحكم. كذلك، تقرَّر إغلاق شارع الشانزليزيه، فيما ألغت مجموعة «لوي فيتون» الفاخرة خططاً لتقديم إحدى ماركاتها في معرضها الرئيس هناك، حتى إن معظم المتاجر في الجوار استدعت عناصر أمن إضافيّين للتعامل مع الحالات الطارئة. أيضاً، نُشرت ألوية قوات خاصة محمولة على عربات مدرّعة في مدينتَي مارسيليا وليون، بعد تعرُّض متاجرها الفاخرة لعمليّات نهب واسعة.
ad
وشكّل الهجوم على منزل رئيس بلدية ضاحية لهالي – روز في باريس، وإصابة زوجته، إشارة احتاجتها الأجهزة الأمنية للحصول على ضوء أخضر بقمع الاضطرابات، عبر اللجوء إلى مزيد من العنف. ونُقل عن قائد شرطة باريس، لوران نونيز، قوله إن «هذا الهجوم تحديداً كان تجاوزاً للخطوط الحمر، ولا يمكن السكوت عنه».
وفيما تحاول وسائل الإعلام الفرنسية – ومعظمها يمينية – تصوير انتفاضة المهمّشين من سكّان الضواحي على أنّها أعمال لصوصية ونهب، غير أن تحليل المواقع التي تعرّضت للهجمات، يشير إلى استهداف مقصود لمراكز الشرطة، ورموز الدولة المتمثّلة بمقارّ البلديات والعيادات الصحية والمكتبات، إضافة إلى بنوك وفروع البورصة. وبحسب مسؤول فرنسي، فإن أكثر من 250 مقرّاً للشرطة، و150 مقرّ بلدية أو مبنى بلدي، تعرّضت لهجمات خلال الأيام القليلة الماضية، فيما نُهبت متاجر ومعارض سيارات فاخرة لا ترتادها عادة الطبقات الأكثر فقراً في فرنسا.
ad
في غضون ذلك، دُفن الشاب المغدور في مسقط رأسه في ضاحية نانتير الباريسية مساء السبت، بحضور حشود فرنسيين من شتّى المنابت والأصول، بدا عليهم الغضب جليّاً، وطالب متحدّثون باسمهم بتحقيق «العدالة لنائل». لكن جدّته ناشدت الشبان، عبر التلفزيون، بالتزام الهدوء، داعيةً «الناس الذين يقومون بأعمال شغب الى أن يتوقفوا عن ذلك».
كشفت حادثة قتل نائل مرزوق مجدداً عن انقسامات عميقة في المجتمع الفرنسي
ومع بلوغ الاحتجاجات أسبوعها الأول، تفيد مصادر حكومية بأن الاضطرابات تميل إلى التلاشي، بعدما خفّت حدّتها تدريجياً، أقلّه وفق ما يرى وزير الداخلية، الذي يعتبر أيضاً أن الفضل في ذلك يعود إلى «الإجراءات الحازمة للشرطة». ونقل عن دارمانين اقتناعه بأن «الجمهورية لن تتراجع، بل أولئك الرعاع والبلطجية». ويبدو أن من بين الإجراءات التي اتّخذتها حكومة ماكرون، وقْف خدمة الإنترنت بشكل جزئي، بعدما تبيّن دور مواقع التواصل الاجتماعي في تحريض الشّبان على التمرّد وتنسيق الهجمات والمطالبة بالعدالة لنائل مرزوق الذي يُعتقد بأنه استُهدف بمعاملة غير معتادة من قِبَل الشرطة على أسس عنصريّة. وكانت الشرطة قد أصدرت بياناً كاذباً حول حادثة إطلاق النار، قبل أن تتوفّر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد صوّرها المارّة تظهر التصرّف غير القانوني لرجل الشرطة الذي أطلق النار من مسافة صفر على سائق السيارة المتوقّفة، من دون ظهور أيّ إشارات إلى خطر محتمل على حياة ضابطَي الشرطة الموجودَين في مكان الحادثة.
ad
واعتقلت السلطات نحو 1300 شخص يوم الجمعة، و800 يوم السبت، ليصل مجموع المعتقلين إلى الآن إلى أكثر من خمسة آلاف، يبلغ معدّل أعمارهم – وفق معلومات رسمية – 17 عاماً، فيما أصيب العشرات من رجال الأمن في الاصطدامات. وتوفّي أمس رجل إطفاء أثناء تعامله مع حريق هائل، لكن تقرير الشرطة قال إن الحادث ليس له علاقة مباشرة بالاضطرابات الجارية.
وتراقب السلطات في غير ما بلد أوروبي مجاور اضطرابات فرنسا بعصبيّة، وخصوصاً أنها تستضيف أقليّات تعود أصولها إلى شمال أفريقيا. وإذ تخشى حكومات بلجيكا وسويسرا وألمانيا وإسبانيا وهولندا أن تنتقل الحوادث والصدامات إليها، فهي شرعت باتّخاذ إجراءات احترازيّة. لكن قلق النخب الأوروبية الحاكمة الأكبر متأتٍ من إمكان تحوّل انتفاضة مهمّشي فرنسا إلى حرب طبقيّة شاملة.
وغلبت أعمال الشغب الفرنسية إلى الآن بشكل خاص على أحزمة البؤس والضواحي التي تضمّ الأقليات والمهاجرين، وهي فئات تواجه، منذ عقود، سياسات التنميط العنصري. لكن مصادر الإحباط في فرنسا وعبر البرّ الأوروبي لم تَعُد مقتصرة على هؤلاء، بل مسّت قطاعات أعرض، ولا سيّما بين منسوبي الطبقة الوسطى، وذلك من خلال تقاطع السياسات النيوليبرالية المحابية للأثرياء، مع التقشّف المديد مذ وُجّهت الأموال العامّة لإنقاذ البنوك والمؤسّسات المالية بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، والتضخّم الهائل الذي نشأ على خلفية الحرب في أوكرانيا. وجاءت موجة الاضطرابات الحاليّة بعد عدّة أشهر من الاحتجاجات التي شارك فيها ملايين الفرنسيين على تفاوت خلفياتهم السياسية والاجتماعيّة ضد (إصلاح) قانون التقاعد الذي فرضه ماكرون. وقبلهما، حصلت احتجاجات بسبب ضريبة الوقود المقترحة (2018)، وكذلك حراك السترات الصفر الذي وصفته يوميّة «لو موند» بأنّه «حرب طبقيّة تامّة». وتذهب تقديرات الأجهزة الأمنية الفرنسية إلى أن خطر حدوث هذا التطوّر على قاعدة الاضطرابات مرتبط بوجود عدد كاف من المعلّقين اليساريين الغاضبين الذين بإمكانهم تشبيك الفئات المتضرّرة على صعيد واحد، ويبدو أنّ طريقتها لردعهم تمرّ بتشجيع العناصر اليمينية إلى الاصطدام بالمحتجين ذوي الأصول الشمال أفريقية، لتحوير الصراع إلى نزاع ثقافي وعرقيّ. وتقول مصادر من اليمين الفرنسي، إن متبرّعين جمعوا إلى الآن حوالي 700 ألف يورو لمصلحة أسرة الضابط القاتل، معتبرين أنّه كان ينفّذ القانون، وأن العنف الذي يمارسه المحتجّون «عربدة ينبغي التصدّي لها بحزم حتى على المستوى الشعبي».
ad
إلّا أن حادثة القتل التي ذهب ضحيتها نائل مرزوق، وبغض النظر عن مآل الاحتجاجات الحالية – سواء انتهت أو تحوّلت إلى انتفاضة فقراء -، كشفت مجدداً عن انقسامات عميقة في المجتمع الفرنسي؛ فغالبية الشبّان من غير ذوي البشرة البيضاء، والذين هاجر آباؤهم أو أجدادهم من المستعمرات الفرنسية السابقة، يشعرون بأن قيم الجمهورية الفرنسية للحرية والمساواة والعدالة لا تطبّق في حالتهم، فيما فشلت الحكومات المتعاقبة، على مدى 50 عاماً، في التعامل مع ما سمّاه الرئيس الراحل، جاك شيراك، بـ«سُمّ التمييز». ولا يزال الفرنسي من أصل عربيّ أو أفريقي في الجيل الرابع أو الخامس عرضة للتوقيف من قِبَل الشرطة أكثر بـ 20 مرّة من الفرنسيين ذوي البشرة البيضاء، كما أن تمثيلهم في السجون هو الأعلى، فيما تتضاءل نسبهم في التعليم العالي والمناصب المهمّة والعامّة، وينتمي معظمهم إلى الفئات الأشدّ فقراً في المجتمع توازياً مع شبه انغلاق تام في فرص التقدّم.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية