آخر الأخبار
الرئيسية » تحت المجهر » فـارس دمـشـق الـذي تـرّجـل ..

فـارس دمـشـق الـذي تـرّجـل ..

بعد أسبوع من عودتنا من جنيف حلت فاجعة بدمشق. ففي يوم الجمعة 21 كانون الثاني 1994 توفي باسل_الأسد – الابن الأكبر للرئيس حافظ الأسد الذي كان ضابطاً في الحرس الجمهوري وبطلاً في الفروسية – في حادث أليم على طريق مطار دمشق الدولي الذي كان يلفه الضباب. لم يتجاوز هذا المهندس الشاب الذي درس في جامعة دمشق الرابعة والثلاثين من العمر. كان باسل محبوباً جداً في سورية، فقد تبنّى نشر الثقافة الحاسوبية من خلال جمعية المعلوماتية السورية، وأصبح شخصية أيقونية للشباب السوري بتوجهاته الإصلاحية وسجله الرياضي، إذ كان مظلياً وبطلاً في الفروسية.
21 كانون الثاني 1994 كان يوم جمعة، عطلة أسبوعية، كان مقرراً أن يستقبل الرئيس وفداً من الكونغرس الأمريكي في وقتٍ مبكرٍ من ذلك الصباح. استيقظتُ باكراً لأعدّ نفسي للاجتماع، لكنني تلقيت مكالمة هاتفية تخبرني أنهُ تأجل، و لم تُذْكر تفاصيلٌ ٱخرى. قلتُ في نفسي أن هذا غريب، إذ لم يكن من عادة الأسد أن يؤجل إجتماعاً مقرراً أو يلغيه قبل وقتٍ قصير من موعد انعقاده.
ارتديتُ ثيابي وانتظرت مكالمة ٱخرى، آتت بعد فترة وجيزة. لم تكن المكالمة من القصر الجمهوري، بل من وزيرة التعليم العالي الدكتورة صالحة سنقر. طلبت أليّ أن أقابلها في الوزارة، لكنني اعتذرتُ قائلة أن لدي اجتماعاً مع الرئيس. قالت بهدوء : ” لن يجري أي اجتماع مع الرئيس يا بثينة “.لدى سماع كلماتها، أصابني الرعب، فقد اعتقدتُ أن شيئاً غريباً قد حدث للسيد الرئيس الأسد. سارعت من فوري متوجّهة إلى الوزارة في حيّ المزّة، و مليون فكرة تتسابق في رأسي. كانت كلها أفكاراً سيئة، و توقعت أسوأ الاحتمالات، لكنني لم أتخيل لحظة واحدة أن شيئاً قد حدث لأولاد الرئيس.
استقبلتني الدكتورة سنقر بتعبيرٍ جامد على وجهها، ثم قالت: ” لقد توفي باسل الأسد قبل قليل في حادث على طريق المطار “. و بينما كانت تهمهم هذه الكلمات ببطء، أعلن مسجد قريب الخبر على الناس، و رجع صداه على الشوارع الفارغة، إذ كان يوم جمعة. و ضجّ رأسي بالخبر. لم أستطع تصديق ما أسمع. كان باسل شاباً ممتازاً مهذباً ذكياً و بارزاً في المجتمع. و ها هو ذا قد مات فجأة، لسببٍ يبدو في منتهى التفاهة. لم يكن مريضاً، و لم يكن مصاباً بأي داء عضال، و لم يمت في معركة أو لأنه تعرض لإصابة رياضية رهيبة.
كانت وفاتهُ ناجمة عن الضباب الكثيف على طريق المطار. كانت طريقة في الموت شديدة البشاعة. كل ما استطعتُ التفكير فيه في تلك اللحظة هو أمه و أبوه المسكينان. لابد من أن الخبر أفجعهما إلى درجة لا تصدق، توجهتُ من مكتب صالحة سنقر إلى مسكن الأسد لأقدم التعازي للرئيس.
لم يُتحْ لي لقاءُ باسل إلا لماماً، لكن أختهُ بشرى الأكبر منهُ سناً، كانت لي صديقة حميمة جداً. و في الواقع اعتبرتها أختاً، أوضح ما أذكرهُ هو صورة الرئيس الأسد وهو يصعد الدرج في منزل العائلة، وهو يسند زوجته المكلومة، بدا و كأنهُ كبر عشرة أعوام منذ آخر مرة شاهدتهُ فيها، قبل بضعة أيام. قبل أسبوع واحد فقط، كان حافظ الأسد الرئيسَ ذا الكبرياء في جنيف، ويتفاوض بمهارة مع الرئيس بل #كلينتون. كان قوياً وذا سطوة وصبوراً ومنيعاً فيما يتعلق في حقوق سورية ضمن المجتمع الدولي. والآن تحول ” أسدُ دمشق ” – كما كان العالم الغربي يسميه في أحيان كثيرة – فجأة إلى أبٍ مفجوعٍ فقدَ ابنهُ المفضّل.
و لا شك في أنهُ من الصعب جداً فهم مدى قسوة فقدان ابن وهو في السنوات الذهبية من العمر. ومن المألوف أن الأبناء هم الذين يدفنون آباءهم و أمهاتهم، ويندرُ أن يدفن الوالدان أولادهما. 
وقفتُ في الزاوية مع بشرى، ثم خطوت نحو الرئيس وزوجته وعبّرت عن تعازيّ، فصافحني من دون أن يتكلم بكلمة. قبَّلْتُ السيدة الأولى، ورفعت هي بصرها إليّ من وراء دموعها، وتمتمت بكلمات تنقل أفكارها الداخلية: “لا، ليس باسل. باسل أكبر أولادي، باسل …”، كانت تتحدث إلى نفسها، لا إلى أيّ منا: الرئيس أو بشرى أو أنا.
أمضينا اليوم في مسكن الرئيس، نشارك العائلة مصابها، ثم توجهنا في صباح اليوم التالي إلى القرداحة، لنحضر الجنازة الحاشدة. وإضافة إلى مئات الآلاف من الذين أعلنوا الحداد في كافة المدن السورية، شارك في الجنازة قادة عرب.
سيذكر كثيرون ما فعلهُ الرئيس الأسد بعد صعودهِ سلم الطّائرة التي نقلت نعش باسل إلى القرداحة، حين دخل مقصورة القيادة و لوَّح للجماهير من النافذة الصّغيرة، وكأنهُ يقول: ” تحلوا بالشجاعة و كونوا أقوياء و اعتصموا بإيمانكم، فهذه إرادة العلي القدير “. كان هذا الرجل قد فقد ابنهُ أمس، ولكن ما زالت لديه الحكمة التي تجعلهُ يتصرف قائداً لشعبهِ.استمر الحداد أسبوعاً كاملا.
كان الرئيس يمضي ساعات طويلة وهو يتقبل التعازي من كبار المسؤولين، ثم ينفرد بنفسه. كنتُ كثيراً ما أقول لنفسي إن المسألة ليست سهلة، إذ إن ذكرى باسل حاضرة باستمرار في الأغاني والبرامج التلفزيونية والملصقات والصور العملاقة على جدران كل مدينة في أنحاء سورية كافة.
وفي إحدى المرات، سارت بصمت أمام مسكن عائلة الأسد مجموعة من زملاء باسل الفرسان، وهم يمتطون جيادهم، ويعبّرون بذلك عن تقديرهم للفارس الذي هوى. وقف الأسد يراقب المشهد، حيث كان فوق كل جواد فارسهُ، ما عدا خيول باسل العربية، التي جللت بالسّواد. لقد أفزعني ما بدا من بعد، عن اللياقة، وعن مراعاة مشاعر الآخرين في ذلك الموقف. ألم يتعرض هذا الرجل و زوجته لما يكفي من البؤس و الأسى؟ لِمَ نذكرهما مرة تلو المرة بالمأساة التي فجعت عائلتهما بها؟
وفي أحد الأيام أتت بشرى إلي و قالت: “أرجو أن تذهبي إلى غرفة الجلوس حيث يجلس والدي، إذ إنهُ سيتلقى مكالمة من الرئيس كلينتون”. 
صدمتني رؤية الغرفة الصغيرة البسيطة التي كانت تشبه إلى حدّ بعيد غرفة الجلوس في شقتي المتواضعة. قلت:” هل هذا هو المكان الذي تجلس فيه طوال اليوم، يا سيدي الرئيس؟ “. رفع بصرهُ إليّ بهدوء وبتعبير حزين، لكنهُ حازم، كما لو كان يقول: “أين ينبغي أن أجلس؟ ما الذي ينقص هذه الغرفة؟”. ثم أجاب سؤالي بلطف قائلا: ” إن المرء في هذا العالم، يا بثينة، يستطيع التركيز على أحد شيئين: إما البيوت والمال أو العمل. وقد آثرت التركيز على عملي”. لم أنسى تلك العبارة قطّ. وبعد بضع سنوات عبّرت عن رأي بدا أنهُ أعجبهُ، وقال لي: “يبدو إنك قد ركزت على عملك ” وثم نظر إليّ وكأنهُ يذكرني بما قاله لي في ذلك اليوم الحزين.
كان ذلك أسمى أنواع الإطراء التي أسبغها عليّ الرئيس حافظ الأسد، و دائماً أتذكر الخيار الذي اخترتهُ بالتركيز على عملي، وليس على البيوت والأشياء المادية.
ذكر كلينتون هذه الواقعة باختصار في مذكّراته: ” حين هتفتُ إلى الأسد معزياً، كان من الواضح أنهُ كسير القلب، مما يذكّر أن أسوأ ما يمكن أن يحدث في الحياة هو فقدان الولد “.
من كتاب الدكتورة بثينة شعبان / عشرة أعوام مع حافظ_الأسد 1990/2000 /  ص 137 – 139(سيرياهوم نيوز-٢١-١-٢٠٢٢)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رفض الابادة الصهيونية رغم الضغوط ومحاولات القمع: الجبهة الطلابية مستمرّة في جامعات أميركا

    رفض الابادة الصهيونية رغم الضغوط ومحاولات القمع: الجبهة الطلابية مستمرّة في جامعات أميركا   مدفوعة بمشاهد الموت والدمار الآتية من غزة والمنتشرة على ...