| د. سعـد بساطـة
تتسابق بلدان العـالم في جذب الاستثمارات إليها؛ بتقديم الإغـراءات والتسهيلات كافة؛ ويخطئ البعـض باعـتبار الإعـفاءات المالية أنها شرط جاذب؛ فالذي يهم المستثمر بالدرجة الأولى سهولة وسرعـة «المعـاملات الورقية» ؛ وهي ما اصطلح عـلى تسميته «البيروقراطي».
لجان تنبثق عـنها لجان؛ واجتماعـات لا تنتهي؛ وبطء السلحفاة في المعـاملات؛ ولا اعـتبار للزمن؛ وموظفون كأنما وجدوا لتعـقيد الأمور؛ لا لحل المشاكل وتسهيل المعـاملات.
هنالك قول مفاده: إذا أردت أن تبحث عـن أصول الفساد؛ فهو يكمن في قوانين بالغـة التعـقيد؛ وتطبيق تعـجيزي من موظفين فاسدين وغير أكفاء!
أبلغـني مصدر موثوق أنه كان بصدد تحضير حصر إرث؛ بعـد وفاة والدته السيدة «بدع»؛ واستمرت المعـاملة تنمو من صفحتين إلى ملف ضخم بحجم الفيل؛ وتوالت طلبات الموظفين العـجائبية؛ طوابع.. ختم؛ عرض عـلى فلان؛ حاشية من عـلان؛ ولكن الخاتمة كانت القشة التي قصمت ظهر العـير؛ أمـر الموظف ضمن طلباته التعـجيزية أن تحضر «بدع» أمامه للتوقيع؛ وهنا أبلغـه صاحبنا؛ أنه من المستحيل إحضارها؛ فهي ترقد في سكون في التربة؛ بعيداً عـن ضوضاء الموظفين وهمهمة المراجعـين وسيل الأوراق الذي لا يكاد ينتهي!
لم يجد صانعو فيلم «الإرهاب والكباب» أفضل من مبنى مجمع التحرير(بالقاهرة) لتجسيد معاناة المواطنين مع الروتين: موظفون غائبون، ومكاتب خاوية، وملفات مكدسة، وآخرون مشغولون بأشياء كثيرة ليس من بينها العمل، طلبات لا تنتهي بين طوابع وأختام وتوقيعات، لكل منها رحلة طويلة، وختامها إنتظار ممـضّ!
وأصبحت العبارة الشهيرة «فوت علينا بكرة»، رمزاً لتعطيل مصالح المواطنين في المؤسسات الحكومية، وتعبيراً عن تعنت الموظفين وتمسّكهم بالروتين والبيروقراطية إلى أقصى درجة.
وبينما ينتقد مسؤولون ما يعتبرونه مبالغة في تصوير البيروقراطية والروتين، يقول صانعو السينما أنهم ينقلون صورة واقعية لمعاناة المواطن والموظف نفسه أحياناً.
أفلام كثيرة قدّمت صورة للبيروقراطية الحكومية وتعـنـّت الموظفين، كنا نعـتقد أنها تبالغ؛ ففوجئ من مر بالتجربة؛ أنها فعـلا تبالغ؛ ولكن في تخفيف صورة الألم الحقيقي للمراجع؛ الذي يجنـّد نفسه شهوراً لمتابعـة معـاملة معـيـّنة!
استطاع الكاتب أحمد رجب رسم صورة كوميدية ساخرة لظاهرة البيروقراطية والروتين في المصالح الحكومية وتكدير المواطنين بطلبات لا تنتهي، في «الوزير جاي» عام 1986، واتسم بالجرأة في معالجة القضية. فهو يسلط الضوء على تقاعس الموظفين عن أداء مهامهم، فهم يغادرون المصلحة الحكومية لقضاء أعمال أخرى، على حين يكلفون موظفاً سابقاً- يسعى إلى الحصول على معاشه- بإنجاز أعمالهم. تتعطل مصالح المواطنين بسبب غياب موظف يتضح أنه توفي، وعلى الرغم من مشاركة مسؤولي المصلحة في جنازته، فإنهم يتمسكون بالروتين الذي يمنع تعيين بديل، وذلك لغياب الأوراق الرسمية التي تثبت وفاته، ويوقعون عليه عقوبات إدارية. وتبلغ ذروة الكوميديا المأساوية حين تصل أخبار الفساد وتعطيل مصالح المواطنين إلى الوزير المسؤول، الذي أدلى بتصريح للصحف، فيقرر زيارة المصلحة. وبدلاً من إصلاح حال المصلحة، يقرر مسؤولوها خداع الوزير واستئجار ممثلين مغمورين (كومبارس) لأداء أدوار الموظفين والمواطنين.
أختم مقالي الموجع بهذه الحادثة التي جرت معـي شخصياً؛ فقد كنت في مؤتمر لتنشيط الصناعـة – قبل سنوات الأزمة- في العـاصمة البلجيكية بروكسل؛ وضمن محاضرات الندوة؛ التي تدعـو لتخفيف الروتين؛ تفاخر مندوب إحدى الدول بأن الترخيص لمشروع استثماري يتم في بلاده في نصف يوم؛ فقام مندوب دولة أخرى لينبري قائلاً: إن الترخيص في بلده يستغـرق «ساعـة واحدة»؛ وهنا أخذني التفكير في مشاريع «النافذة الواحدة» لدينا؛ وما يختبئ خلفها من نواااافـــذ؟!
سيرياهوم نيوز3 – الوطن