جواد ديوب:
يا لهذا الفيسبوك كيف أصبحَ مكاناً لـ”الفوضى” المعرفية والعاطفية، أيُّ عالمٍ افتراضي قائمٍ على الـ”لا دقّة” و الـ”لا موضوعية” و”الحقائق المزوّرة بخبث، أو عالم أنصاف الحقائق!
خلخلة الوعي!
يقول الكاتب مجد كارا مقتبساً بتصرف من عدة مصادر مثل الروائي آلان دونو في كتابه الشهير “نظام التفاهة” ومثل بيير بورديو في النقد الاجتماعي: “إن التفاهة الرقمية باتت تقدَّمُ لنا بوصفها بنية ثقافية واقتصادية وأيديولوجية تتجاوز حدود المحتوى السطحي لتغدو نظاماً رمزياً مكتمل الأركان. فقد نشأت هذه البنية في ظل تحولات ما بعد الحداثة، وتغوّل الرأسمالية الرقمية، وهيمنة الصورة ومن ثمّ تحوّلت التفاهة من صفة أخلاقية إلى منظومة إنتاج تعمل الخوارزمياتُ الرقمية والسوقُ والمنصات على إعادة توليدها واستنساخها، لتصبح معيارًا للذوق وقيمة اجتماعية بديلة؛ إنّ ثقافة الاستعراض واقتصاد الانتباه أدّيا إلى خلخلة الوعي وتحويل الإنسان من فاعل نقدي إلى مستهلك ومُنتِج لسطحية معولمة.”
نعم؛ فقد يتنطّعُ الكثيرون من جهابذة وسائل التواصل الاجتماعي إلى الحديث في الاختصاصات كلها إلا اختصاصهم الحقيقي، فواحدُهم يعمل مرشداً تربوياً ونفسياً على الريق، وطبيباً تجميلياً بعد الظهر ينصحُ في قضايا “التاتو” و”الآي لاينر” وأسنان اللولو وابتسامة الموناليزا، ثم مساءً يتحوّل إلى باحث في قضايا الوطن الاستراتيجية. فيما صديقتُه في “مهنة النقيق والادعاء” تتفوق عليه، إذ تتحول في الليل الرومانسي بعنادٍ مستمرٍ -بل بجرأة الجاهل- إلى شاعرة تكتب قصائدَ في مديح نفسها؛ ثم لدينا أولئك الذين يردّون على هؤلاء في سجالٍ فيسبوكي لا نهائي حيث غبارُ الكرّ والفرّ يعكّر الفضاء الأزرق وصرير سيوف “اللايكات” المؤيدة يحتدم مع قرع طبول الجمل الشاجبة المنذرة بكوارث ديجيتالية من عيار الحظر والتقييد والإبلاغ عن الصفحات وتسليط “الهاكرز” مع العتاد الكامل من البصاق الافتراضي واللكمات الليزرية.
الرغبة بالتصديق!
أي جنون وأي جحيم منفلت عبر وسائل يفترض أنها للتواصل الاجتماعي! المرعب أن الجميع يتشارك معلومات غير مؤكدة، يتناقلها الآخرون مراراً على أنها حقيقة معممة بقوة الرغبة بالتصديق؛ أو بدقة أكثر الرغبة بتصديق ما يتناسب مع قناعاتنا ومواقفنا المسبقة والمعلَّبة الجاهزة.
فالتحقق من أي معلومة أو أي صورة عن أي بلد في العالم وعن أي شعب من شعوب العالم هو أمر شائك وليس في متناول أو قدرة جميع مستهلكي وسائل التواصل… إضافة إلى أننا كثيراً ما نقع في مطباتٍ وبلبلة إلكترونية… إذ لا نعرف انفعالات الشخص المتحدث هل يقول جملته غاضباً أم حزيناً أم مستهزئاً؟ هل يقطّب حاجبيه ويقلب شفتيه ممتعضاً من حديثك؟ هل هو هو، وهي هي؟ هل هو بالفعل من يدّعي أنه الشخص ذو الصورة المرفقة والاسم المكتوب؟ وهل هي بالفعل جميلة كما في الصورة التي اختارتها بعناية الفوتوشوب والسناب وفيلترات الترقيع والتجميل؟
الواقع الخرافي!
في الحياة الواقعية الملموسة نعشق بالسمع، بالنظر وبالرائحة، تقودك نظرةٌ من فتاة جميلة إلى التهلكة، ويخفق قلبُ صبيةٍ قرب الحديقة حين يطل حبيبها بين جموع الناس ليفاجئها بوردةٍ اختارها بعناية، لكن
هل شممتم رائحة وردة غاية في الجمال أرسلها لكم أحدٌ ما كمعايدة على الفيس بوك؟ هل مسحتم، عبر الفيس بوك، دموعَ إحداهن لأنها رسبت في امتحانها؟
هل تذوقتَ أيها الشاب الفيس بوكيّ طعمَ الشاي والقهوة والكاتو والشوكولا التي تحدّثك عنها الصديقات عبر صور يرسلونها لك ويشوّقونكَ على مذاقها، فيما أنت غارق بأوهامك السعيدة وتساؤلاتك عن من تكون تلك التي أرسلت لك جملتي غزل واسمها السحريّ: كاساندرا !؟ هل تذوقتِ أيتها الفتاة الفيسبوكيّة طعمَ الكرز الذي حدّثكِ عنه حبيبك وهو يستعرض لكِ كم يحفظ من حكم وأبيات شعر وقصائد غزل إلكترونية، ينصبها كفخاخٍ هنا وهناك ليتصيّدكِ بها؟
الكارثة أن معظم “المتفسبكين” باتوا مثل قفير الدبابير الهائجة؛ فيما لم يبقَ إلا أقل القليل ممن يعملون بصمت وإخلاص وإيمان بأن لا شيء أكثر قيمة من جمع رحيق الكلمات لتحويلها إلى عسل معرفي نادر.
لذلك يا أصدقاء، يبقى أن أرسل لكم تحياتي الإلكترونية بطعم الزعتر البري… وأنتم أضيفوا لها من عندكم “شنكليشاً” إلكترونياً… واحلموا بالطعم الديجتاليّ الخرافي!.
syriahomenews أخبار سورية الوطن
