علي عواد
تشير تحركات رئيس وزراء العدو الأخيرة في غزة إلى ما هو أكثر من مجرد خطة عملية للفترة التي تلي الحرب؛ بل إنّها جزء من إستراتيجية أوسع تهدف إلى إنقاذ صورة إسرائيل في الغرب. ومع تعرّض «جيش» الاحتلال لانتقادات متزايدة بسبب حرب الإبادة والتطهير العرقي المستمرة في القطاع، يعمل نتنياهو على نقل إدارته إلى شركات عسكرية خاصة. تتيح هذه الإستراتيجية للكيان بالتنصّل من المسؤولية المباشرة، ليبدو كأنّه يقدّم حلاً «إنسانياً» تديره جهات مستقلة
تسبّبت العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة في انتقادات عالمية، واجتاحت فيديوهات المجازر شاشات المستخدمين الشباب في الغرب، ونشرت منظمات حقوق الإنسان تقارير خطيرة حول حجم الضحايا المدنيين والدمار الكبير. وقد عبّرت الحكومات الغربية (بمعزل عن أنها لم تحم فلسطينياً واحداً من الإبادة) ـــــ وخصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة ــــ عن قلقها من الأزمة الإنسانية المتفاقمة، مطالبة إسرائيل بتقديم خطة واضحة تتماشى مع المعايير الدولية. ورد نتنياهو على هذا الضغط بتحول تكتيكي: عبر نقل إدارة القطاع إلى شركات خاصة، يأمل أن يُعيد صياغة السردية الإعلامية من «احتلال عسكري» إلى «إدارة إنسانية».
في مقال رأي نشرته «هآرتس» في 22 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، بعنوان «نتنياهو يبيع غزة لميليشيات خاصة»، تحدثت الصحيفة عن خطة نتنياهو المتعلقة بغزة، مشيرة إلى أنه رغم الانتقادات، لديه خطة غير معلنة تتضمّن خصخصة السيطرة المدنية في القطاع، وأنه يسعى إلى تحويل الحكم العسكري إلى شركات خاصة، ما يعني نقل المسؤولية عن الشؤون المدنية إلى كيانات ذات مصالح مالية، ولا سيما شركة GDC الأميركية الإسرائيلية.
تعتبر شركة GDC اختصاراً من Global Delivery Company، التي يقودها رجل الأعمال الأميركي ـــ الإسرائيلي موردخاي كاهانا، متورطة في مناقشات تتعلق بإدارة العمليات «الإنسانية» في غزة. وقد حصلت خطط كاهانا على اهتمام واسع، إذ يقترح نشر مقاولين خاصين للمساعدة في اللوجستيات الإنسانية في المنطقة وسط الأزمات المستمرة. وقد اقترح كاهانا مبادرة بقيمة 200 مليون دولار لإنشاء ممرّ آمن للمساعدات «الإنسانية»، مدعياً أن التمويل الأميركي سيدعم هذا المشروع. تتضمّن هذه الخطة استخدام مقاولين أميركيين خاصين، قد يكونون من المحاربين القدامى من وحدات عسكرية نخبوية، لإدارة مناطق حيوية مثل معبر رفح. وتتضمن إدارة شركة GDC أفراداً لديهم خلفيات واسعة في العمليات العسكرية والاستخبارات الإسرائيلية، ولا سيما مستشار مكافحة الإرهاب، عوديد أيلام، وهو الرئيس السابق لقسم الإرهاب في الموساد، وعضو مجلس الإدارة يوسي كوبرفاسر، الذي شغل سابقاً منصب المدير العام لوزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية ورئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
من الواضح أنّ خصخصة إدارة غزة جزء من مناورة إعلامية تهدف إلى تقديم حلّ «محايد» قائم على مصالح اقتصادية، وليس استمراراً للاحتلال العسكري. إذ يتيح ذلك لإسرائيل الترويج لفكرة أنّها «تتراجع» عن المشاركة المباشرة في الإبادة، ما يُسهل تبرير أنها تركّز على «الاستقرار»، بدلاً من كونها مسؤولة عن الانتهاكات. في مشهد إعلامي تُعدُّ فيه الصورة بأهمية الحقائق نفسها، يوفر هذا التحول لإسرائيل مساحة لتجنّب الاتهامات بارتكاب جرائم حرب، وبالتالي تقديم دور الشركة على أنه إداري بحت. وبهذه الطريقة، تستطيع إسرائيل الادعاء بأنها تُعطي الأولوية للمساعدات الإنسانية والنظام في غزة.
تمنح هذه الخطوة الكيان فرصةً لتجنّب الاتهامات بارتكاب جرائم حرب
لكن الواقع أكثر خطورة. فالمتعاقدون العسكريون ليسوا جهات إنسانية محايدة؛ بل منظمات تهدف إلى الربح، وذات تاريخ في تعقيد النزاعات وانتهاك القانون الدولي. يسمح استخدام GDC لإسرائيل بتحويل العبء الأخلاقي والقانوني من «الجيش» إلى طرف ثالث، ما يُحصّن «جيش» الاحتلال من المسؤولية المباشرة. وكما قال مؤسس الشركة ومديرها التنفيذي موردخاي كهانا بشكل تهديدي: «إذا حدث شيء، سنبعث رسالة إلى سكان غزة: لا تعبثوا معنا». يكشف هذا التصريح بوضوح الطابع القسري لهذا الترتيب، الذي يتخفى تحت ستار «المساعدات الإنسانية». ورغم الصورة التي تسعى إسرائيل إلى ترويجها، فإنّ خصخصة الإدارة في غزة قد تفاقم الأوضاع. فالمتعاقدون يفتقرون إلى المساءلة ولا يملكون دافعاً لتحقيق السلام أو احترام حقوق الإنسان. وبدلاً من تحقيق الاستقرار، قد تصبح غزة ساحةً جديدة للسيطرة التجارية غير المقيدة. لكن بالنسبة إلى نتنياهو، الهدف ليس السلام، بل تحسين الصورة الإعلامية لإسرائيل، حتى مع تدهور الأوضاع على الأرض.
يلجأ نتنياهو إلى الغموض في ما يتعلق بتوسيع المستوطنات في غزة. في العلن، يدّعي أن إنشاء مستوطنات جديدة «غير واقعي»، لكن في الواقع، ينظّم حزبه فعاليات تدعم هذا الحلم التوسعي. تخدم هذه الرسائل المزدوجة غرضين: من جهة، تُطمئن الحلفاء الغربيين إلى أنّ إسرائيل لا تنتهج سياسة توسعية عدوانية؛ ومن جهة أخرى، تترك الباب مفتوحاً لإنشاء مستوطنات مستقبلية، ستصبح إزالتها صعبة لاحقاً، كما حدث في الضفة الغربية. يتيح هذا الغموض لنتنياهو التحكّم بالسردية الإعلامية، إذ يبقي التركيز على الإدارة الفورية وإعادة الإعمار بدلاً من الطموحات الإقليمية طويلة الأمد. تتضح محاولات نتنياهو لخصخصة السيطرة على غزة كجزء من إستراتيجية تهدف إلى تعزيز الاحتلال وتقليل الأعباء السياسية والعسكرية. ومع ذلك، تظهر عزيمة الشعب الفلسطيني في مقاومة هذه السياسات عبر العمليات النوعية المستمرّة التي تنفّذها المقاومة ضد ضباط وجنود الصهاينة.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار