رشا سلوم:
تمر هذه الأيام ذكرى رحيل المفكر العربي محمد عابد الجابري الذي عرف بكتبه ودراساته التي ناقشت بنية العقل العربي في السياسة والأخلاق والتكوين وقد أثار نقاشه هذا حراكا واسعا في المشهد الفكري العربي .
لم يتوقف حتى الآن ومع أن النقاش كان في مستواه الفكري الراقي لكنه أخذ طابعا سياسيا في أحيان كثيرة
يقول مؤلف كتاب اعلام الفكر العربي مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة ..الدكتور ولد السيد أباه
يتمحور مشروع الجابري حول مفهوم نقد العقل العربي الذي أعطاه عنوانا لكتبه الأربعة ويعني بهذا النقد المعرفي للتراث العربي في مستويين ..تكويني تاريخي ونسقي بنيوي وفي حقول ثلاثة ..المعرفة والسياسة والأخلاق أراد الجابري من هذا المشروع تأسيس عصر تدوين جديد ودفع المشروع النهضوي العربي .
محطات ..
ولد الجابري عام ١٩٣٥ في المغرب العربي درس في كلية الآداب هناك ثم انتقل إلى سورية لدراسة الفلسفة في الجامعة وقد توقف عند هذه المرحلة في كتابه حفريات في الذاكرة وقد أشرنا إليه سابقا هنا في هذه الصحيفة وعن أهمية هذه المحطة
يقول الجابري 🙁 اكتشف صاحبنا في دمشق منذ الأيام الأولى من مقامه فيها صورة أخرى للمشرق غير تلك التي هيمنت على مخيلته بعد صدمة الأحياء الشعبية بالإسكندرية..لقد وجد دمشق مدينة هادئة ونظيفة ووجد سكانها في غاية النظافة والهدوء واللطف يعتبرون كل عربي واحدا منهم فيشعر الوافد عليها من العرب فعلا أنه بين أهله وذويه في دمشق لا يشعر العربي بالغربة ابدا.
لم تسجل ذاكرة صاحبنا – والكلام للجابري – عن السنة التي قضاها في سورية (١٩٥7- ١٩٥8م) أي شيء من الأشياء المزعجة أو الغريبة التي تحتفظ لها الشحنة الوجدانية المرافقة لها بموقع ما في الذاكرة ما يجعلها تقاوم النسيان والفناء وتجعل في الإمكان الحفر فيها واستنطاقها فيما بعد.
أجل كانت السنة التي عاشها في دمشق مليئة بالأحداث السياسية والقومية أحزاب سياسية متصارعة متنافسة ومناقشات برلمانية صاخبة وصحافة حرة تزخر بأنواع المقالات سياسية وفكرية وادبية,وأيضا تجنيد للرأي العام في النزاع الذي يبدو خطيرا بين سورية وتركيا واستقبال حاشد للرئيس جمال عبد الناصر.. ومناقشات كثيرة أفضت للوحدة.. كل هذه المظاهر والوقائع عاشها صاحبنا في دمشق متتبعا ملاحظا, وأحيانا منخرطا.
وهناك ظاهرة كانت قد أثارت انتباه صاحبنا واستغرابه في الأيام الأولى من مقامه في دمشق وهي نوع الحجاب الذي ترتديه النساء هناك.. فهو غيره في المغرب.. في دمشق فقد استرعى انتباهه كونه أسود رقيقا شبه شفاف تلقيه المرأة على جسمها من قمة رأسها إلى أخمص قدمها بما في ذلك الوجه.. وعندما سأل صاحبنا أحد الأساتذة عن ذلك قال له إنه قديم يرجع إلى العصر الروماني والإغريقي ، وقد تأكد صاحبنا فيما بعد أن ليس هناك حجاب موحد إنما هناك حجاب على طريقة كل بلد.
والظاهرة الثانية التي أثارت انتباه صاحبنا واستغرابه عبارة التحية التي يتبادلها الناس هناك في سورية ولبنان والأردن وفلسطين وهي.. مرحبا.. والجواب: «مرحبا أو مرحبتين».. وقد فسر صاحبنا التحية هذه بكون البلد فيه تمازج بين مختلف المكونات فكانت التحية عامة شاملة للجميع.
بقي الجابري في دمشق مدة عام كامل كان خلالها طالبا, أصيب بدمشق بمرض التراخوما بعينه، وكتب عن رحلة العلاج التي استمرت فترة من الزمن في عيادة طبيب دمشقي, وقد وقع بحب مساعدة الطبيب التي أعجب بها, ويشير إلى ذلك في كتبه (حفريات في الذاكرة من البعيد) وهو صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت, وإذا كنا توقفنا عند الوشم السوري في حياة الجابري، فهذا لايعني آلا نشير إلى أن الكتاب مذكرات شخصية جميلة وممتعة يمكن للقارئ أن يجد فيها الكثير من الفائدة والاطلاع على سيرة المفكر الجابري، صاحب الكتب المهمة التي حللت بنية العقل العربي, سياسيا وثقافيا وأخلاقيا،وقد حفرت مجراها عميقا في الثقافة العربية وتركت نقاشا مهما مازال قائما, توفي الجابري منذ فترة من الزمن.)
اليوم نحن بحاجة ماسة إلى متابعة مشروع الجابري في نقد العقل العربي للخروج من متاهات الجهل والتخلف وهذا يحتاج جهودا فكرية كبيرة تقوم بها مؤسسات كبيرة أيضا.
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة