- شفيق طبارة
- الإثنين 15 حزيران 2020
كان يفترض بـ «دا 5 بلادز» أن يفتتح الدورة الجديدة من «مهرجان كان السينمائي»، لكن إلغاء الحدث بسبب كورونا، أدى إلى طرح الشريط على شبكة نتفليكس. إنّه أحد أكثر أعماله طموحاً ونضجاً. المخرج المتمرّد والغاضب على النظام العنصري، يشرّح هذه المرة خطاباً حول هشاشة الإنسان والزمن والذنب والألم الجماعي والفردي…. كل ذلك من بوابة حرب فيتنام التي كان الأميركيون الأفارقة حطباً فيها
عالج سبايك لي الحرب في «معجزة في سانت آنا» (٢٠٠٨)، وهو فيلم لم يرغب العديد من استوديوهات هوليوود بإنتاجه. لذلك جاء معظم التمويل من شركات أوروبية. في ذلك الفيلم، حاول أن ينصف دور الجندي الأفرو-أميركي في الحرب العالمية الثانية. وفي فيلمه الجديد «دا 5 بلادز»، أخذنا إلى حرب فيتنام ليوضح منذ اللحظة الأولى الظلم الذي حدث هناك للأميركيين الأفارقة، إذ أُرسلوا إلى الخطوط الأمامية للقتال، بل شكلوا نسبة ٣٢٪ من مجموع الجنود الأميركيين، في حين يشكل السود نسبة ١١٪ من الشعب الأميركي. يقع فيلم سبايك لي الجديد في وقتَين ومرحلتين مختلفتين. وفي المعالجة المرئية للتصوير وتنسيق مساحة الشاشة المستعملة، أراد أن يجعل التمييز بين المراحل واضحاً جداً في جميع الأوقات، وبالتالي إعطاء المزيد من التوتّر لكل ما حدث في الماضي والذي لا يزال صداه يتردّد داخل الشخصيات الأربع البارزة في شيخوختها، للتأكيد على أن الاستقرار الذي تظهره في بعض الأوقات، ما هو إلا وهم. وسرعان ما ستنشأ تشققات في العلاقة في ما بينها. فيلم لي ليس نابضاً بالحياة كثيراً، على عكس أفلامه السابقة، وهو طويل نسبياً (ساعتان ونصف الساعة)، أخذ وقته كي يعرّفنا إلى شخوصه: ما يوحدهم، كيف نسجت صداقتهم وجذور الاختلافات التي تبعدهم عن بعضهم أحياناً. من دينامية صداقتهم وتاريخهم وبوجود شخصيات أخرى حولهم؛ تنتقل قصة «دا 5 بلادز» إلى نوع من رحلة لإيجاد كنز، حيث تبدأ مآسي الماضي الشخصية بالظهور. وهنا لا يفوت لي فرصة للهجوم دفعة واحدة وللمرة الثانية (المرة الأولى في بداية الفيلم) على دونالد ترامب. لكن الأحداث تجري بهدوء، وبالتطور المنطقي المرتبط في جميع الأوقات بالمكوّن الأساس وهو التاريخ.
صور احتجاجات ولقطات أرشيفية من الستينيات والسبعينيات، مع خطب مالكوم أكس، وبوبي سيل، وأنجيلا ديفيس، تشبه ما تلى مقتل جورج فلويد
يبدأ الفيلم (كان مقرّراً أن يفتتح «مهرجان كان السينمائي» في دورته الملغاة بسبب فيروس كورونا، خارج المسابقة الرسمية لأن لي كان رئيس لجنة التحكيم وسوف يترأس لجنة التحكيم في نسخة عام ٢٠٢١) بسلسلة من اللقطات الأرشيفية من الستينيات والسبعينيات، والخطب التي ألقاها مالكون أكس، وبوبي سيل، وأنجيلا ديفيس وغيرهم خلال ذلك الوقت المضطرب، مع مشهد إعدام فان ليم نغوين. لكن ما يصفعنا به لي في البداية هو مقتطف من مؤتمر الملاكم محمد علي كلاي (١٩٧٨) الذي رفض الذهاب إلى فيتنام للمحاربة: «إن ضميري يمنعني من قتل أخ أو جائع فقير باسم أميركا. لماذا أقتلهم؟ لم يعاملوني أبداً على أنني زنجي، لم يجلدوني، لم يطلقوا كلابهم عليّ، ولم يحرموني من جنسيتي». خبطة تظهر كل السعي المادي والروحي الذي ينتظر المحاربين الأربعة. لا يتعامل الفيلم بشكل مباشر مع جحيم حرب فيتنام، بل يتعامل مع الماضي غير المدفون. عودة أربعة محاربين قدامى بعد سنوات طويلة إلى فيتنام إلى ساحة المعركة: بول (ديلروي ليندو في أداء مذهل)، وأوتيس (كلارك بيترز)، وإدي (نورم لويس)، وميلفين (ايزيا ويتلوك جونيور)، لتحديد مكان جثة قائد فريقهم السابق نورمان (تشادويك بوسمان) وإعادتها إلى الولايات المتحدة، وللبحث عن كنز دفنوه هناك أيام الحرب. من هنا نعرف أن سبايك لي (كعادته) يريد أن يحشر الكثير من المواضيع في الفيلم: بحث عن كنز، فيلم حرب، درس في التاريخ، دراما وكوميديا وتراجيديا، مع الكثير من أغاني مارفن غاي ولقطات من الأرشيف. لي ليس مقتنعاً بتصوير حرب فيتنام فقط من منظور أميركي أفريقي، بل يمرّ عبر عقود من الإمبريالية الأميركية، وكم من السود ذوي المصير المؤسف الذين ضحوا بحياتهم في الحرب من أجل بلد لم يعاملهم بطريقة جيدة ولم يعطِهم حقوقهم. ينقلنا لي دائماً بين الحاضر والماضي، وبينما يخترق بول وأوتيس وإدي وفيلفين أعماق الغابة؛ تعود ذكرياتهم أكثر فأكثر. رغم أنه من الغريب أن نرى الممثلين أنفسهم يقدمون شخصياتهم في الماضي والحاضر من دون أي نوع من تقنية تصغير العمر (رأيناها في فيلم «الإيرلندي» (٢٠١٩) لمارتن سكورسيزي)؛ إلا أنه سيتضح لنا أن هذا هو قرار لي. بالنسبة إلى المحاربين السابقين، هذه ليست ذكريات، بل هو التاريخ الذي لا يزالون يعيشون فيه، وتأثيره عليهم لا يمكن محوه. على سبيل المثال؛ لفهم بول، وهو بالمناسبة انتخب ترامب ويرتدي قبعة «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، من الضروري أن نرى نوع الغضب الذي يحمله حول شعوره بأن أميركا قد خذلته، وأنه كان قذراً لتورطه في الحرب.
تأخذ الصور الأرشيفية للمظاهرات والاحتجاجات وأعمال الشغب ولشخصيات شكلت مراحل محورية في تاريخ السود، صدى رهيباً ومثيراً للدهشة، إذ تشبه كثيراً الأسابيع القليلة الماضية بعد مقتل جورج فلويد وحركة «حياة السود مهمة». يشجب سبايك لي بشدة أميركا غير العادلة وغير المتكافئة، وأفعالها الماضية وأعمال ترامب. من خلال المزج بين الحقيقة والخيال والمحاكاة والصور والمشاهد الأرشيفية، يصبح «دا 5 بلادز» مانيفستو سياسياً واجتماعياً يتحول تدريجاً إلى عمل عميق وجريء. في واحد من الفلاشباك التي تنتشر في الفيلم؛ يعلم الجنود خلال حربهم في فيتنام باغتيال مارتن لوثر كينغ على الراديو من المذيعة الشهيرة هانوي هانا. تتحدث الأخيرة عن أعمال الشغب والانتفاضة التي تحدث في الولايات المتحدة، والطريقة التي تقتل بها السلطات البيضاء أمهات وأخوات السود أثناء قتالهم في فيتنام في هذه الغابة المؤلمة وكذب الدولة الأميركية التي وعدتهم بالحرية والمساواة لسنوات عديدة. هكذا، بعد بداية كوميدية، يفتح السيناريو المجال أمام انعكاس وجودي حقيقي للشخصيات ومكانها داخل المجتمع الأميركي. ما يبحثون عنه هو أكثر من جثة أو كنز، بحثهم ما هو إلا وسيلة لمواجهة أشباح ماضيهم وإيجاد مرشد ومدافع وحكيم ومتحمس للقضية وإرجاع ما يعتبرونه ملكهم.
يرينا سبايك لي الواقع: بعد حوالى ٥٠ عاماً على انتهاء النزاع؛ لا تزال الألغام المدفونة تُلحق الخراب بالأطفال والسكان. لم تنحسر التوترات، والكراهية لم تنتهِ، والمعاناة والصدمة لم تغادرا أذهان المحاربين بعد. ولأن التاريخ يعيد نفسه دائماً، كما تساءل سبايك لي في الفيديو الأخير الذي نشره على صفحته على تويتر، ولأن لي يعرف كيف يربط بين الماضي والحاضر؛ بدأ وأنهى فيلمه الجديد بحميمية أكثر. بدأ بمحمد علي، وانتهى بمارتن لوثر كينغ جونيور. وفي المنتصف حافظ على شخصيته كجزء من المجتمع الأميركي الأسود، في سخطه على العنصرية والحرب العقيمة ضدها، مع وجود رمزي لترامب في الفيلم (شخصية جون رينو الذي يشبه في بعض المشاهد ترامب كثيراً، خاصة عندما يعتمر القبعة الشهيرة).
المقدمة التي اختارها لي للفيلم كانت لوضع الشريط في مكانه الأساسي منذ البداية… لتوضح أن مشاركة الأميركيين الأفارقة في الحرب كانت شكلاً آخر من أشكال عدم الإنسانية، تم تجريدهم من القدرة على اتخاذ القرار، حاربوا في بلد تخلق فيه العنصرية مواطنين من الدرجة الثانية، ويموتون في الحرب من أجل قضية لا تخصّهم. يبني لي خطاباً ماكراً ليخلق شيئاً جوهرياً: مفهوم الفرد في خضم ظروف قاسية، وفي الوقت نفسه ميراث الانتماء إلى مجتمع عنصري. ويذكّر بأن لأميركا وجهين: وجه خفي وآخر معلن. الخفي هو الذي يتمثل في الظلم والمعاناة الثقافية للسود. يتقدم لي في الفيلم في هذا اللغز الفوضوي المرتب من الذكريات والحجج والآلام والمناقشات حول بئر عميق من المسؤوليات. تمكن خلال مدة الفيلم من إنشاء خريطة حول نفسية الناجين، وحول جيل مكسور بسبب وحشية الحرب وعدم وجود سبب مقنع لها، ونظرة الرجل الأبيض للآخرين، فبالنسبة إليه «أنا زنجي، وأنت زنجي، وهو زنجي، وهذا زنجي آسيوي».
الحرب بشعة ولا أحد يشك في ذلك، ولي يتقدم في فيلمه بإيقاع غريب، ولكن من دون إضاعة لحظة واحدة من تطور الشخصيات، الذي لا يمكن للمشاهد الهروب منه. وفي النهاية عندما تتحلل الذكريات بدقة وتترابط أجزاء المعلومات وتتداخل قصص الأصدقاء؛ يوضح لي أن الحرب لا تنتهي أبداً لمن يخوضها. بشكل ملموس، يعمل سبايك لي في «دا 5 بلادز» بالتوازي مع جميع الحروب والنضال الدائم واليومي للمجتمع الأسود. القتال لم ينتهِ أبداً، بل محكوم عليه بالاستمرار. وسبايك لي يحارب في السينما الخاصة به، يتقدم بطريقة خشنة لكن ينهي فيلمه بشيء من التفاؤل، لأنه يدرك أنه لم يعد وحيداً في هذه المعركة. فمثل التزام الشباب الذي يتمثل بديفيد (جوناثان ميجور) وهندي (ميلاني تيري) وتصميمهما على تغيير العقليات في الفيلم؛ هناك جيل جديد موهوب من صانعي الأفلام بقيادة آفا دوفيرناي وجوردان بيل وباري جينكينز وآخرين… فيمكنه أن يرتاح نفسياً، لم يعد وحيداً، ويمكن للنضال أن يستمر.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)