بقلم:نارام سرجون
عندما تحدث جريمة يكثر المحققون والمفتشون .. وتظهر الشائعات والاتهامات والفرضيات .. وتطفو القصص القديمة المنسية .. وتصبح القصص التي لامعنى لها تلبس لبوسا غامضا يتم الباسها للجريمة وشخصيات الجريمة والضحية .. ولكن عندما تظهر تفاصيل الجريمة ويكتشف المجرم .. تموت الافتراضات والنظريات والاتهامات وتصبح الشائعات مثيرة للسخرية .. وقد يراها البعض مهينة بعد ان كانت محط تقدير واعجاب او على الاقل مثار فضول وتستحق التعاطي معها بجدية .. وحتى ولو بقدر من الشك .. دون القدرة على رفضها طالما انها تستند الى غموض الحقيقة .. والغموض سلاح وقوة وهيبة ..
اليوم بعد هذه السنوات على الحرب .. ظهر الذين تستروا على الحقيقة .. وقالوا اعترافاتهم ؟؟ كل بعظمة لسانه .. ودون اي مواربة .. ودون محاولة تجميل او مناورة ديبلوماسية .. من بين هذه الاعترافات الأولى كانت اعترافات القطريين بلسان حمد بن جاسم الذي كان المدير التنفيذي للحرب في بدايتها وكان مفوضا من قبل المجموعة التي قررت اطلاق الحرب بكل اجراءات اعلان الحرب وادارة الجزيرة والمؤتمرات وتوزيع الادوار بين الجامعة العربية وبقية الأطراف اعلاميا وسياسية ومن ثم عسكريا .. وهو في اعترافاته يقول مايعرف .. ومن الواضح انه كان يعرف جزءا من الصورة لكنه لم يكن يدري الجزء الآخر منها .. فهو يعلم انه مفوض باثارة القلاقل والشك وتفكيك بنية الدولة وتفكيك المجتمع وتحويل الدولة الى دولة فاشلة عندما يحصل شك بقدراتها وتفقد هيبتها الامنية وتفقد احترام مواطنيها .. ويثير الشبهات بكل تصرفاتها وبكل تاريخها .. ولكن الجزء الآخر من اللعبة لم يكن على دراية به لأن دوره كان في التمويل السخي وتفكيك المجتمع والدولة … ومابعد ذلك كان هناك دور للأتراك والاميريكيين والسعوديين في خلق الجسم المسلح بعد ان قامت كاسحات الالغام بفتح الطريق امام الجهاديين الذين استفادوا من سقوط هيبة الدولة والامن .. واستفادوا من جو الصدمة وانهيار الثقة بقدرة الدولة او بصدقها .. وكان كثيرون من السوريين لايعرفون ان كان من الصواب تصديق الدولة ام تصديق الرواية الاخرى .. وهل من الحصافة الرهان على نظام يموت علنا ويبشر كل شيء في الدنيا بنهايته الى حد اليقين ؟؟ وهل من الحصافة ان يصدق احد ان هذا النظام يمكن ان يكون افضل مصيرا من الحكم العراقي برئاسة الرجل القوي صدام حسين؟ او الليبي بقيادة شخصية عالمية اممية مثل القذافي؟ كل هذا جعل الكثيرين رغم كل تخبطاتهم وعواطفهم سواء مع الدولة او ضدها بين خوف او لايقين .. بين الغموض والوهم ..
بعد ظهور هذه الاعترافات توالت الاعترافات .. وظهر ايهود اولمرت بعظمة لسانه وهو يقول: “لو قبل الاسد بالسلام مع اسرائيل لما مر الربيع العربي في سورية ولكان الاسد قد جنب نفسه وشعبه هذا الخراب والدمار ولكنه لم يقبل بالسلام فدفع ثمن موقفه” ..
ويظهر في تركيا اشخاص ومنهم داود اوغلو ويظهر في اوروبة أشخاص يقرون ان الخلاف مع الاسد انه لو قبل بأن يسلم الحقائب الأساسية للاخوان المسلمين لما حدث له ماحدث .. وكانت هذه الوزارات هي اخطر الوزارات .. وليست الخارجية ولا الدفاع طبعا .. بل وزرارة التربية والتعليم العالي والثقافة وبعض الوزارات الخدمية .. فيتم تغيير المناهج التعليمية لاطلاق مجتمع جديد ينفصم عن الدولة وعن حالة ثقافة المواجهة مع الغرب لاقامة ثقافة الخلافة الاسلامية وتقييم الناس دينيا وايمانيا .. ومن ثم يخضع المجتمع كله للفتوى ويصبح منظر التيار الديني في المجتمع هو ضابط الايقاع وتخضع له موسسة الجيش والامن .. وبعدها تصبح الدولة العميقة في المساجد ..و جمهور الائمة .. الذين تمسك بهم الدول التي تقوم بتصديرهم وتمويلهم واطعامهم .. وهؤلاء وجدنا كيف انهم في السعودية انقلبوا من متشددين بحقوق الله والدين والاسلام وأمرين بالنهي عن المنكر ومطوعين .. الى مدافعين عن الترفيه والمنكر والتفكك الاخلاقي والاجتماعي وتغيير الشعائر بما يتناسب مع العهد الجديد .. أي ان المجتمع السوري تصبح حركته متعلقة بفتوى خارج البلاد .. مثل الشيوعيين القدامى الذين كانوا يتبعون توجيهات الرفاق في موسكو .. وكان الناس يقولون عنهم (انهم اذا امطرت في موسكو فانهم يحملون المظلات في دمشق) .. وهذا ليس انتقاصا للشيوعية كنظام وكفكرة ولكنه انتقاد لأن يكون الانسان صاحب مشروع وطني ليفيد بلاده ولكنه يظن ان الرفاق في موسكو يدركون مصلحته أكثر مما هو يدركها .. وهذا نفس الشيء في الولاء الديني لمرجعيات دينية خارجية .. وهو نفس الشيء الذي نراه في العلمانيين العرب والمشرقيين الذين يتبعون حركة الاجرام السماوية في لندن ونيويورك وباريس .. فهم يتحركون بما يفيد مصالح هذه العواصم بحجة ان هذه العواصم تفهم في الحرية وطريقة ادارة الحياة السياسية أكثر منا ويجب اتباع ماتنصح به من وصفات البنك الدولي الى وصفات التطبيع والابتعاد عن الشرق والتماهي مع حالة الاغتراب الثقافي والسياسي ..
كنا كمواطنيين نبحث عن مشروعنا الوطني الصافي المستقل وتجربتنا في حدودنا .. لم نقبل سلطة من اميريكا ولا من موسكو ولا من طهران ولا من السعودية ولا من لندن او باريس أو .. تل ابيب ومنظمة ايباك ..
اليوم ظهرت الحقيقة .. وظهرت الجريمة والمجرمون .. وظهرت الاعترافات بألسنة من شارك في الجريمة .. وقام المنفذون بتمثيل الجريمة أمام أعيننا .. وسمعنا برقم 137 مليار دولار لتغيير نظام الحكم في سورية .. وسمعنا بشماتة اولمرت الذي قال لو مر السلام بين دمشق وتل أبيب لما مر الربيع العربي بسورية .. ورأينا نوع الحرية وحقوق الانسان والطفل التي يعشقها الاوروبيون ممثلة على حقيقتها في غزة .. وهل نحتاج أكثر من ذلك؟؟
يرى الذين مشوا في درب ماسموه الثورة السورية كيف ان غزة اليوم تذبح ولكن كل من وقف مع مظلومية الشعب السوري كما يقولون لم يفكر بمظلومية الشعب الفلسطيني .. ألا يستحق ماحدث في غزة أن يسأل من ساروا في الربيع العربي: لماذا لا يحرك الدم الفلسطيني كل ذلك الخزين من العواطف والمؤتمرات والتبرعات والدموع والبكاء الذي بذل من أجل الشعب السوري؟؟ أليس هذا سؤالا منطقيا يجب ان يسأله الناس الذين صدقوا أصدقاء سورية ومشوا معهم وخضعوا لتوصياتهم وأخذوا منهم الاموال؟؟ طالما أن القضايا الانسانية واحدة ولاتقبل تبدل الموازين والمعايير الا اذا كانت هناك غاية دنيئة عندما تتغير الموازين .. ألا يعني تغير الموازين ان كل القضية التي كانت أخلاقية لم تعد أخلاقية.. اي ان الاخلاق التي دفعت الأمم والدول للوقوف الى جانب الثورة السورية لايمكن الوثوق بنواياها وصدقها طالما أنها تنكرت للشعب الفلسطيني .. والاصرار على ان هناك فرقا بين القضيتين يعني انك الانسان دخل في مرحلة الانكار وخداع الذات .. والخوف من الذات التي ستظهر خائنة آثمة ..
الا يستدعي اصرار اسرائيل على قصف غزة ودمشق دون أي عاصمة عربية ان يفكر الانسان ان كانت نظريات الثورة عن ان اسرائيل هي التي تثبت الحكم السوري لأنه عدو الشعب السوري؟ أليس هذا نوعا من الخيال الذي يستحق صاحبه ان يخجل من نفسه؟؟ أين هي قصة بيع الجولان وعدم اطلاق رصاصة على الجولان طالما ان اسرائيل تحس ان من في دمشق يجب ان يقصف بمئات الغارات .. وطالما ان خطوط امداد الغذاء لاسرائيل تمر من الاردن وتركيا وليس من سورية التي يزعم البعض ان نظامها باع الجولان وهو مطلوب منه ان يحكم الشعب السوري بالنار كي لايهدد اسرائيل .. ؟ لماذا تقصف الطائرات الاردنية جنوب سورية في هذه المرحلة؟ هل قرر تجار الحشيش اليوم ان ينشطوا أكثر أم أن قوافل السلاح المهربة هي التي تحركت للوصول الى الضفة الغربية..؟
تخيلوا ان الملك حسين اعترف بعظمة لسانه انه كان على علاقة سرية مع الاسرائيليين وكان ينذرهم بخطط سورية ومصر بنفسه .. ومع هذا يجد البعض اعذارا له .. ولايتهمونه ببيع الضفة الغربية رغم ان كل شيء يوحي انه كان على علم بنية اسرائيل الدخول الى الضفة فأفرغها من السلاح .. كما اليوم ابنه يتأمر على غزة ولكنهم يصورونه يرمي الطعام بالمظلات على الغزيين .. ومع هذا يتهمون السوريين انهم باعوا الجولان .. واليوم السوريون يوصولون السلاح لحماس فتقصفهم اسرائيل وتقصفهم الطائرات الاردنية لمنع ايصال السلاح للضفة الغربية .. ومع هذا يقولون لك ان النظام السوري عميل لاسرائيل !!!..
نحن لم نقع في تلك الخطيئة من الجمود في الموقف .. وقمنا بمراجعات وأعدنا تقييم الموقف .. موقفنا القديم كان اننا ندعم الحكم الحالي طالما انه ضد اسرائيل وضد الغرب .. ووطني يتمسك بالاستقلال الوطني .. وان مايحدث لايعبر عن ثورة بل عن عن مشروع خارجي حاملوه اما مخدوعون او خونة .. او رومانسيون قليلو التفكير ويتبعون الغواية .. وتبين لنا ان اعترافات الاخرين بالدليل اليقين اننا على صواب .. لأن حرب غزة أظهرت ان من دافعنا عنه هو الوحيد الذي لم يطبع وهو الوحيد الذي لم يبع ولا ذرة من تراب من فلسطين فكيف ان يبيع الجولان؟؟ ونكتشف في اعترافات الاخرين اقرارا اننا كنا على صواب وأن مذهبنا السياسي هو اليقين .. وانه ليس توهمات بلا دليل .. واننا لم نندم .. واننا كنا ضحية مؤامرة .. والمؤامرة لم تكن وهما ولا تخرصات ..
اليوم استمتعت لكثيرين ممن انشقوا وانتموا لثورتهم .. وهم يستذكرون بطولاتهم الثورية وشجاعتهم في الانشقاق .. ولكن لاأحد منهم يريد ان يعيد الميزان الى كلامه .. ولا أحد يريد ان يعترف انه أصاب في أشياء وأخطأ في اشياء .. والجميع لايزال يصر على ان الثورة طاهرة وبريئة وليست مؤامرة وهي بنت الشعب .. وأنه لاشعب سوري في نظره الا الشعب المعارض وفقط .. وفي نظره ويقينه ان 99% من السوريين معارضون مثله وان من في سورية معهم ومرغمون على العيش كمؤيدين .. وأما من بقي من السوريين فهم مريضون نفسيا وشبيحة او مأجورون .. وهو لايتحدث الا عن أهل السنة طبعا لأنه لايعتبر البقية مواطنين لهم رأيهم او موقفهم كجزء من الوطن الذي ثاروا لبناء الحرية فيه .. وكأن الحرية مقصورة فقط على ان تعرض لا أن تؤيد .. وأما اعترافات من صنع الجريمة فانها لاتعني له .. وكأنها ترمى في أذان صماء .. رغم أنها اعترافات لاتقبل التأويل او التفنيد او الاجتهاد بمدى صدقيتها .. بل هي دليل فاقع ساطع يعجز اي شخص في الكون عن التشكيك بها ..
أحيانا تحس بالشفقة على الناس وعلى كل من يصنع الخديعة لنفسه وينشر الشائعة ثم يصدقها .. ولكن عندما يصل الأمر الى حد ان رأيه القديم صار بمثابة دين لايقبل الردة ولايقبل التغيير فانك تحس انه لايستحق ان ينتمي الى وطنك .. وأنه سيأتي بالمشاكل والمصائب على نفسه وعلى من يحيط به .. وانه حيثما حل تدنى المستوى الأخلاقي والعقلي والضميري .. لأن الضمير والاخلاق يقاسان بمقدار مايراجع الانسان نفسه ويستفيد مما رأى وسمع واكتشف .. فيطور أفكاره او يعدلها او يثبتها بناء على معطيات جديدة .. أما أن يبقى عنيدا ولايغيره الدليل ولايغيره الاقرار ولايصدق الا نفسه ولايقبل ان يشكك بما فعل فان من الأفضل ابقاء هذه الشخصيات خارج الوطن لأنها عبء على أي وطن .. ولاتستحق الا المنافي .. ولاتستحق الا أن تعيش الغربة وان تعيش على الهامش حتى ولو نالت كل الرفاهية والمال في الخارج .. فانها على الهامش .. فكل فضاء مهما كان رحبا في الخارج هو هامش .. وكل هامش في الوطن علي ضيقه هو فضاء لك .. هذه الشخصيات التي وضعت القيود في معاصمها بحجة تكسير قيود الوطن أخضعت نفسها لمن يمولها ولمن يؤويها ولمن يلجئها وهي خرجت من قفص الوطن الذي كانت تراه قفصا ضيقا مؤلما .. لتدخل في أقفاص الاخرين ..
هؤلاء هم المغفلون .. والقانون الذي كنا نقول انه لايحمي المغفلين ينطبق عليهم .. فالمغفل ليس من يقع في الخطيئة والخطأ بل من يحول الخطيئة الى عقيدة ودين ومذهب لايمسسه التغيير ولا محاسبة الذات ..
الى كل الثورجيين الذي لايزالون على ثورجيتهم .. ولايزالون يرون انهم مظلومون وأنهم على حق .. انتم صرتم امواتا لأنكم لاتقدرون على الخروج من القبر الذي وضعتم أنفسكم فيه .. فعندما لاتقدرون على محاكمة أنفسكم فأنتم في قبر حيث لاعودة الى الحياة .. وتظنون انكم قادرون على تغيير الحياة والتدخل في الحياة .. من مقابركم ..ولكن لاطريقة للعودة الى الحياة الا بالنزول من عالم الاموات الى الارض .. أرض وطنكم التي دمرتموها بسذاجتكم ..
(سيرياهوم نيوز ١-مدونة الكاتب)