تعتبر الطفولة المرحلة الأهم في بناء شخصية الإنسان، وعلى الأهل أن يدركوا مبكراً كيف عليهم تنشئة أطفالهم بصورة صحيحة انطلاقاً من فهم شخصيتهم ومعاملتهم بدرجة عالية من الوعي تتناسب مع أعمارهم كونها تؤسس إما لشخص فاعل في المجتمع، إن أحسن الأهل تربيته، أو شخصاً فاقد للثقة بنفسه خاضع لرغبات الآخرين، إن كان خارج اهتمامات أهله، وهنا يجد الشخص نفسه عندما يكبر ويدرك سن البلوغ في صراع مع ذاته غير قادر على مواجهة ظروف ومتطلبات الحياة ويعيش تحت رحمة الآخرين.
وفي هذا الإطار قام عالم النفس الدكتور إدوارد ترونيك بتجربة عرفت باسم “تجربة الوجه الثابت” والتي تتلخص حول أم تجلس مع طفلها وتلعب وتضحك معه، والطفل فرح ومتّزن، وبعدها يطلب الباحث من الأم أن تنظر للطفل دون أي تعابير للفرح، فوجد أن الطفل يحاول بكل قدراته ليستعيد أمه ويحاول أن يضحكها، ويصدر أصواتاً، ويحاول البحث عن حلول. للوهلة الأولى نعتقد بأن طفلاً بهذا العمر لا يمكنه التفاعل مع المجتمع، ولكن الحقيقة أن معظم جروحنا تأتي من هناك (في هذه المرحلة) حيث نعيش تحت رحمة الآخرين بلا قوة ولا ذكاء ولا فائدة نقدمها.
لكن هناك قلب كبير من المشاعر الحساسة، فالمشاعر جزء من تكويننا نبحث عن حميمية مع الأهل نشعر معهم بالأمان من خلال الكلام أو النظرات أو حتى بمشاركة الصمت، المهم أننا نعبر عما يجول في داخلنا نرى ونحب على حقيقتنا.
قد تبدو هذه المشاعر غير مهمة، ولكن من غيرها ننجرح للأبد عندما لا يتنبه الأهل إلى مشاعر الطفل، ويحدث ما يسمّى بالاهمال العاطفي، حيث يشعر الطفل بالفراغ العاطفي، ويبدأ يسأل نفسه ما هو الشيء السيئ الذي أفعله، وجعل أهلي غير مهتمين بمشاعري، كيف خيبت أملهم؟! يمكن أن يكون الأب مقصراً أو الأم مكتئبة، ولكن هذا لا يمنع الطفل من التفكير ما هو التصرف السيئ الذي قمت به، فلا يوجد أصدق من حب الطفل لأهله.
وهنا يخرج الطفل باستنتاج بأن يكون الطفل شخصاً آخر غير شخصيته، لأنه واضح وحقيقي، ويبدأ الطفل بنكران مشاعره وقدراته ويلعب الدور الذي يعتقد أن أهله من خلاله سيبادلونه الحب والاهتمام، وعندما يكبر ينسى الـمعالجة، ويبقى متعلق بفكرة أن أكثر شخص يجب أن يعجب به لم يكن معجباً بشخصيتيه، فيكبر ليجد نفسه فاقداً للثقة في ذاته، ويشعر بالذنب الدائم تجاه الآخرين لخضوعه لرغباتهم، وهنا يشعر في قرارة نفسه بأنه وحيداً، وهذا يجعله يدخل في علاقات سيئة وفاشلة على اعتبار أنه يعتبر نفسه يحمل همومه وهواجسه وآماله لوحده، وينتهي به الأمر إلى سلوك طريق الخطأ، إما من خلال علاقات فاشلة أو عمل يحصل على أجر أقل مما يستحق، وهنا يختلط لديه مبدأ (التسامح مع الاستغلال) لأنه يشعر بأن هذا الأمر طبيعي.
في كتابها “الأطفال البالغون لآباء غير ناضجين عاطفياً” تذكر الدكتورة ليندي غيبسون قصص لمرضى عندها منهم من لديه شعور بألم من الوحدة من صغره ويشعر بمسؤولية تجاه مشاعر أمه بغض النظر عن الأعمال التي قاموا بها لمساعدة أهلهم ليتمكنوا من الحصول على اهتمامهم.
في كتابها تصنف الدكتورة غيبسون الأهل في أربع أنواع:
- النوع الأول: الوالد العاطفي، شعورهم يغير سلوكهم
- النوع الثاني: الوالد الدافع، أهالي يريدون كل شيء من حولهم بشكل تام بما في ذلك التحكم في حياة أطفالهم دون أي تعاطف مع مشاعرهم.
- النوع الثالث: الوالد السلبي، الأهالي الذين لا يقتربون من حياة أطفالهم والخطورة هنا أنهم يسمحون لأطراف أخرى أن تؤذي وتسيء لأطفالهم.
- النوع الرابع: رفض الوالد، الأهل الذين يجعلونك تفكر إذا كانوا يريدون أن يصبحوا آباء وأمهات فدورهم فقط إصدار الأوامر دون إعطاء مساحة للحب والحميمية!
وتخلص غيبسون إلى أن الأنواع الأربع للأهل يمكن اعتبارهم مقصرين وسيئين، ولكن بطرق مختلفة، فالأهل الناضجين عاطفياً يفهمون أن المهم هو المجهود، وليس النتيجة فليس بالضرورة أن تكون أذكى أو أجمل إنسان ليفتخروا بك، لأنهم تعلموا التحكم في مشاعرهم بدل أن تتحكم المشاعر فيهم.
أما الأهل غير الناضجين عاطفياً، فمن المستحيل أن يعترفوا بخطأهم أو أن يتأسفون، بل لا يرون مشاعرهم وعيوبها ويخافون من المشاعر الصادقة، وأحياناً يرفضون الحميمية، والقرب إذا رأى إبنه منزعج، إذ يمكن أن يصرخ أو يخفف عنه بطريقة سطحية، أو يستهزئ به، لأن هذا المستوى من المشاعر يربكه كونه شخص (غير ناضج عاطفياً).