باريس – فراس عزيز ديب
الأحد, 12-09-2021
في كلِّ مرةٍ تعود فيها ذكرى الحادي عشر من أيلول الأميركية، يعود إلينا شريطَ الأحداثِ الممتد من تلك اللحظة المشؤومة بانهيارِ البرجين، والتي ما زال البعض يطبِّل لها على أنها كسرت هيبة الولايات المتحدة، إلى اللحظة التي باتَ فيها ثمن الثأر الأميركي اليوم بُلدَاناً وشعوباً وأقاليم.
قد تكثر الروايات عن ذاكَ الحدث في غموضهِ وتأثيرهِ تحديداً بأن كل الدول التي تمَّ عقابها لا علاقةَ لها به! لكن الثابتَ الوحيد وبنظرةٍ عابرة لكل الدمار الحاصل من حولنا هو أن ما قبل الحادي عشَر من أيلول لم يكن كما بعدَه.
الذكرى هذا العام وإِن عادَت وملفات المنطقة والعالم إلى المزيدِ من التداخلِ والضبابية، إلا أنها أبَت إلا أن تحملَ معها بشرى خيرٍ للبنانيين عبرَ الإعلان رسمياً عن تشكيل حكومتهم بعد أكثر من عامٍ على استقالة الحكومة الحالية، واعتذار المرشح السابق سعد الحريري للخلافة، ليكون السؤال المنطقي بهذه الحالة: ما الذي يشكله إعلان ولادة الحكومة اللبنانية الجديدة وسطَ كل هذا الصخب الذي تعيشه المنطقة والعالم، ألا يبدو الحدث هامشياً لا معنى له؟
واقع الأمر يجعلنا نذهب بالاتجاه الذي يعتبر أن إعلان التوافق على ولادةِ الحكومة هذه المرة هو حدث يكتسي الكثير من الأهمية، ليسَ فقط لأن لبنان هو صندوق رسائل بل لأن لبنان اليوم تتداخل فيهِ الكثير من الملفات العالقة، على هذا الأساس لا يجب التعاطي مع هذه الخطوة بنوعٍ من التبسيط، لكن في الوقت ذاته لا يجب الإفراط بالتفاؤل في انعكاسات هذا التأليف لأن الشكلَ المُنتظر للنجاح مرتبط بثلاثة محاور أساسية وهي:
أولاً: البيان الوزاري
بدا واضحاً أن سياسة التوازنات في لبنان ستستمر لعقودٍ قادمة منذُ وصول حكومة حسان دياب، فلا الطرف الذي دعمهُ استطاع أن ينفِّذ ما يريده في الملفات العالقة كالحرب على الفساد، ولا الطرف الذي عارضهُ استطاع أن يأتي بالبديل المقبول لدى الطرف الآخر، من هنا بدا التوافق على شخصية رئيس الوزراء اللبناني الجديد نجيب ميقاتي للعودة إلى رئاسة الحكومة منطقيّاً من مبدأ لا خاسر ولا رابح، وهناك الكثير من التقارير التي تحدثت عن أن مرورَ قرار التأليف جاء حسب الرغبة الفرنسية لكن هذا الكلام لا أساسَ له من الصحة، بل يعطي للفرنسيين دوراً أكبرَ بكثير من حجمهم في لبنان. كان الفرنسيون ولا يزالون مع خيار عودة سعد الحريري لكن عودته قوبلت برفضٍ لم يستطع الفرنسي تجاوزه، هذا يعني أن المقاومة ومن معها تضع ثقتها بنجيب ميقاتي، وتدرك أنه لن يذهبَ بعيداً في سياسةِ التناغم مع الغرب وبعض الدول الخليجية في تفجير الوضع اللبناني. وفي الوقت ذاته فإن الفرنسي كان يطمح لوجود حكومة خالية من التأثير السياسي، مع أن الفرنسي نفسه يتجاهل أن سعد الحريري زعيم كتلة نيابية وازنة فكيف ستكون الحكومة من خارج التأثيرات السياسية؟
الهدف الذي أرادَ الفرنسي الوصول إليه هي حكومة ترفض إدراج تغطية سلاح المقاومة في بيانها الوزاري، هذا الهدف كان ولا يزال هو الحلم الذي يداعب مشاعرَ كل من يتبرع في الدول الأوروبية والخليجية لحمل راية حل ما يسمونها «مشكلة السلاح». هُم يعتقدون أن سحب هذا الدَّعم سيحوِّل المقاومة فعلياً إلى مجرد ميليشيا خارجة عن سلطة الدولة، وما قد يعنيهِ الأمر من بيئةٍ خصبة للذهابِ بعيداً في إيجاد آلياتٍ دولية للتخلص من هذا الكابوس، فهل ستتمكن الحكومة من نزعِ فتيل هذا الملف بطريقةٍ ترضي جميع الأطراف، ولو بطريقةِ اللعب بالألفاظ لكون اللغة العربية واسعة لإيجاد صيغة ترضي الجميع؟!
ثانياً: الانهيار المالي
جاءَ قانون قيصر ليعاقب الشعب السوري، ليكتشف كل من دعمه أن تأثيرات هذا القانون عابرة للحدود لدرجةٍ باتَ فيها من يقول إن العقوبات على سورية والبكاء في لبنان. بالتأكيد نجح القانون بالضغط على الشعب السوري وحرمانه حتى من احتياجاته الأساسية، لكن ما لم يكن في الحسبان أن يتحول لبنان إلى قنبلة موقوتة لا نعلم متى تنفجر كنتيجة لهذا القانون. ربما أن سبب التأثر اللبناني بالقانون أن سورية كانت الرئة الاقتصادية التي يتنفس منها لبنان، وهي حقيقة مازال هناك من يتجاهلها رغمَ وضوحها للجميع. في الوقت ذاته فإن الاقتصاد اللبناني كان في الأساس يعاني من سرطانات عدة أهمها المحاصصة الفاسدة للواردات واقتصاره على مشاريعَ غير إنتاجية كالسياحة والملاذ الآمن للمصارف أو تحويلات المغتربين وغيرها. هذا الترهل ظهرت نتائجه خلالَ أشهرٍ فقط من بدءِ تطبيقِ العقوبات على سورية فماذا لو كانت العقوبات على لبنان؟! هذه المفارقة لا تطرح فقط تساؤلاً حولَ قدرة الحكومة الجديدة على الخروج من هذا المستنقع، لكنَ سؤالاً أهم يبدو عابراً للحدود طفا على السطح: هل إن الحكومة القادمة ستعمل ضمن ظروف قانون قيصر أم دونه؟
مبدئياً لا تزال الرؤية ضبابية لكن المنطق يقول إن تكرار التجربة ذاتها في الظروف نفسها سيؤدي إلى النتائج عينها، بالتالي فإن الغرب الذي ادعى حرصه على استقرار لبنان عليه أن يعلم بأن أول درجات الاستقرار تلك ترتكز على الملف الاقتصادي، تحديداً أن لبنان الغارق في الديون لا يبدو أنه قادر على الاستجابةِ لشروط البنك الدولي للحصولِ على المزيد من القروض والحل الأفضل يكمن بإعادة الوضع كما كان عليهِ قبل تطبيقِ قيصر.
ثالثاً: العلاقة مع سورية
تبدو الحكومة اللبنانية الجديدة أمام مرحلة فتح صفحة جديدة في العلاقة مع سورية، تحديداً أن الفيتو الأميركي الذي كان البعض يتخذه ذريعة لتبريرِ تجنب فتح قنوات اتصال مع سورية كأنه بات من الماضي، وإلا فلماذا سمح الأميركيون للوفد اللبناني بالوصول إلى سورية للتفاوض على مرور الغاز المصري والكهرباء الأردنية، وربما لماذا سمحوا للأردن باستقبال وزير النفط السوري لنقاش التفصيلات العملية. هناك من يتحدث عن مصطلح تنقية العلاقة مع سورية لكنه لم يخبرنا كيف سيعمل على تنقية علاقة ليست موجودة أصلاً منذُ أن قرر لبنان الرسمي تجنب ما يُغضب الأميركي في التعاطي مع دولة قالوا له إن نظامها سيسقط خلال أشهر، إلا اللهم بعض الشجعان الذين كسروا هذا القيد لأنهم يعلمون بأن أبواب سورية لن تغلق في وجه الإخوة.
لبنان وسورية ليستا بحاجة لتنقية العلاقات لبنان وسورية بحاجة لأن يتعاطى لبنان مع سورية من دولة لدولة، تحديداً في الملف الأهم وهو ملف عودة اللاجئين، مع تأكيد فرضيةِ حساسية هذا الملف التي تفرض بقاءه معلَّقاً، ليسَ خوفاً على اللاجئين من العودة إلى المجهول كما يهلوس البعض، بل لأن ما يحصل عليه اللاجئون من كتلةِ أموال تساهم بتحريك العجلة الاقتصادية في لبنان تبدو أكبر من قدرة لبنان على تركها في الوقت الحالي على الأقل. النقطة الثانية أن هذه الحكومة في النهاية ترى في نفسها حكومة غير قابلة للحياة طويلاً، لكونها ستكون على موعد مع الانتخابات النيابية في الربيع القادم، حيث ستحاول كل الأطراف الحذر من كل ما قد يعكر صفو تحالفاتها الانتخابية بما في ذلك العلاقة مع سورية.
لكن في المقابل لا يبدو أن السوريين سيتوسلون أحداً، هم جاهزون لفتح كل الملفات دونما قيود، بمعزلٍ عن شخصية رئيس الحكومة مادامت الحكومة تمثل لبنان الرسمي، بل إن القيادة السورية حتى بأسوأ الظروف التي جسدها تورط بعض اللبنانيين في الحرب على سورية كانت تفصل بين حماية أمنها من جهة واحترام لبنان بمؤسساته الرسمية من جهةٍ ثانية، وهي حُكماً جاهزة للعمل مع الحكومة التي أفرزتها المؤسسات الدستورية اللبنانية بما يضمن إخراج شعب البلدين من الضيق الاقتصادي والمالي. المشكلة تكمن بأن بعضَ اللبنانيين يصرون على العيشِ في الأوهام، ويتجاهلونَ بأن سورية عندما «عطسَ اقتصادها مرض لبنان»، وفي السياق ذاته ليتذكر هؤلاء أن الواقعية الأميركية غالباً ما ترتكز على استدارات غير متوقعة، ولا يبدو أن الملف السوري بعيد عنها، عليكم ببساطةٍ قراءةَ التغيرات جيداً، بل عليكم التذكر أن الحرب على سورية بدأت عندما جاء الميقاتي كرئيس للوزراء بعد إسقاط حكومة سعد الحريري 2011، اليوم تبدو القصة معكوسة والنقطة المشتركة أن ميقاتها مربوطٌ بعودةِ «ميقاتي».
(سيرياهوم نيوز-الوطن)