راوية زاهر:
«اغتيال ريحانة» قصة واقعية بقلم الأسير محمد عدنان سليمان مرداوي المعتقل في سجون العدو الصهيوني منذ ١٧-٨-١٩٩٠م، والصّادرة عن دار دلمون الجديدة بدمشق باللغة العربية وبترجمات ثلاث للفارسية، الفرنسية والإنكليزية.
وبالوقوف أمام عتبة العنوان التي ستحيلنا إلى معان وتحديّات تأويلية تليق بقسوة التوصيف فـ«اغتيال» بهذا المصدر اللفظي الذي يحمل بين طيّات حروفه
عملية سفح ممنهجة للدم ابتدأ الكاتب قصته، ليتبع هذا المصدر بلفظ «ريحانة». هذا الاسم الذي لم نعِ بعد سر دلالته بالضبط.. هل هو نبتة الريحان ذاتها؟،
أم امرأة مسماة بريحانة تمّ اغتيالها؟، أم مدينة؟، إذ توجد في فلسطين المحتلة بلدة صغيرة تسمى الريحانية قرب حيفا وقد اغتالتها يد الإجرام الصهيوني منذ عام ١٩٤٨م.. تساؤلات كثيرة يفتحها العنوان على مصراعيه، والتي سننثر عقدها في سياق تفاصيل القصة.. أما المكان فهو سجن النقب في فلسطين المحتلة، مكان صغير بردهة تقاس فيها خيوط الشمس، ويحسب حجم الهواء المفترض دخوله إلى فسحة التنفس كحصة مشروطة لأسرى أبرياء؛ ذنبهم الوحيد أنهم أبناء هذه الأرض، فلا ترابها في عرف سجانيهم هو ملكهم، ولا نسائمها في عرف شراذم الأرض هو نسيمهم.. أما الزمان، فهو ممتد من الوجع والحرمان منذ دخول الصهاينة أرض فلسطين مروراً بأزمنة القهر والشتات والمقاومة والأسر.. بينما الشخصيات تمثلت بثلة من الأسرى، يرفضون الموت الزاحف إليهم إلى معتقلات البرد والصقيع، ومنهم كاتب هذه القصة الأسير محمد مرداوي كشخصية رئيسة؛ عاشت تفاصيل الحكاية بوجع الأب الفاقد وشغف الحبيب المثكول، وكذلك رفاقه الذين عاشوا معه كل مشاهدها وخلجات الحزن والفرح فيها.. ومن الشخصيات المكملة لهيئة الديكور في المشهد القصصي: رجالات ببشرات ملونة ترمز إلى العروق القذرة التي جُمعت من شتات الأرض لتكون حارسة على هواء وشمس الأسرى أصحاب الأرض والحق.
وتعود الأحداث لتدور ، بسردٍ تشويقي، لهؤلاء الأسرى المغيّبين عن الحياة ببارقة أمل تعيد لهم شيئاً من التوازن الروحي الذي كاد أن يُفقد بين تلك الجدران اليابسة وأرواح سجانيهم الصدئة.. فكانت فكرة زراعة نبتة في أرض الزنزانة تشعرهم بيخضور الحياة، وأنّه مازال في الحياة أمل وللوجود بقية.. بدأت الآراء تتداخل في اختيار نوع النبتة بين زيتون وليمون ونرجس بري.. ليستقر الأمر في نهاية المطاف على زراعة نبتة الريحان؛ سهلة التهريب من حيث البذار، وصغيرة الحجم لتسهيل عملية إخفائها، ليسير الحدث بداية ببطء، ريثما يتم تجميع التراب المحرّم عليهم رؤيته من بقايا جذور البصل والثوم والبطاطا، يستمر السرد، ويشعّ الأمل في النفوس، وتعود الروح لتنبض من جديد، ولتبدأ حلقة الصراع متمثلة بحالة الجلبة التي مُني بها السجن فجأة والهيجان الذي ساد المكان، ليصاب الجميع بالهلع، رغم حالة التفتيش الاعتيادية والفجائية التي لا يستغرب حدوثها، لكن الأسرى هذه المرة أصيبوا بخوفٍ شديد، قادهم إلى حالة من الترقب والقلق المضاعف، ومن ثمّ ليشتد الصّراع صعوداً، وتصل حبكة النص إلى ذروتها من خلال عبارة أطلقها السجان، وكانت أشبه بالرصاصة التي أصابت أرواحهم، وكأن النكبة عادت من جديد والنكسة وسنوات السجن، وقتل الأمل، كانت كوقع الصاعقة وهذه العبارة هي: «هناك نبتة في إحدى الزوايا، تدبُّ فيها الحياة، وباتت تمدّ الأسرى بالأمل والرّجاء، وهذه النبتة الخضراء عدوّ لنا وجب سحقه..» ،وهنا تقررت عملية الاغتيال وبعد حبس الأنفاس والتفتيش الدقيق تمّ العثور على فلسطين وسفك دمها من جديد على مرأى أبنائها ونشوة سجانيها.
تُرك محمد يواري ريحانته، ويذرف دموعه وحيداً.. ولكن بذرة سوداء تراءت له، ليصرخ من جديد أن الرّيحانة أنجبت بذرة، وما هي إلا رمز للقضية التي لن تموت، وكل ريحانة ستنجب بذرة، فهي ودود ولود كما ليمون فلسطين، وكما أمهاتها ونسائها المستمرات في الإنجاب والاستمرار.
كلُّ ذلك السرد بلغةٍ يلفها الأمل والحماسة والحب، فيها مجاز ثريّ أغنى السرد، واتبعه بتقنية الأنسنة فكانت الريحانة أماً وامرأة ولّادة، ورمزاً لفلسطين الكبرى.. كانت تسمع وتعي، وتذرف الدمع، و وكذلك ثمّة حضور مميز للصورة والتشخيص وعناصره الفنية، «كانت الريحانة تسمع من مخبئها، وتصلي كي لايصلوا إليها مثل طفلة ظنّت أنها ناجية من مذبحة دير ياسين»،(تسمع الموت وهويقترب»، «لحظة القبض على الريحانة».. وكذلك ساد المعجم اللغوي للأسر وظلم المعتقلات: «الأسرى، السجن، السجان، الفورة، الجرح، المعتقل، المجازر».. وقد أعطى الكاتب الرمز مكانة خاصة في هذه القصة، فالريحانة: رمز القضية، وحملت رمزية الأم، والزهرة التي نبتت كانت رمزاً للولادة. والبذرة التي ظهرت في آخر مشاهد الاغتيال والذّبح كانت رمزاً للقيامة، والمفتاح الذي خبأته الأمهات في صناديقهنّ المغلقة، رمز للعودة والتشبث بالأرض والبيوت، واللون الأخضر:رمز للحياة، وأمّا اللون الأحمر فكان رمزاً للدّم والقتل، وهو اللون الذي انتشر بعنف بكل تفاصيل السّجن وإكسسوارته الدّاخلية والخارجية.
بينما تنوّع الحوار، فرأيناه تارة بشكل مباشر بين الأسرى أنفسهم، وتارة بين السّجان والأسرى، وعاد ليكون حواراً خفياً بين النظرات: «كما اقتلعناكم من بيوتكم، اقتلعت لك ريحانتك، هذه الأرض لم تعد لكم؛ عليكم التّوقف عن الحلم والعيش في الأوهام.
قال الضابط كلامه وحدّق في عيني محمد الذي بادله التّركيز في العينين فدار بين النظرات حوارٌ صامت انتهى بانكسار الضابط وخروجه غاضباً بعد أن فهم رسالة عيني محمد المملوءتين بالتّحدي والغضب.
رأينا استخدام الكاتب ظاهرة «التناص» بإعادة قصة اغتيال ريحانة إلى دلال المغربي، ومجازر دير ياسين، وماتركت الحادثتان من أثر على الشارع العام الفلسطيني والإسرائيلي.
القصة معبرة جداً، وهي مترجمة في المجلد ذاته إلى اللغة الفارسية والإنكليزية والفرنسية كما أسلفنا.
سيرياهوم نيوز 6 – تشرين