جلنار العلي
انتقد الأستاذ الجامعي في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور إبراهيم العدي الجفاء بين السلطة التنفيذية وجامعة دمشق، وذلك خلال الورشة التي أدارها يوم أمس في الكلية بعنوان: «على طريق المسؤولية الاجتماعية المعاصرة للدولة»، وخاصة أنه لم يحضر أحد من المعنيين في الوزارات الورشات الثلاث التي أقيمت مؤخراً والتي تعد من أهم الورشات على مستوى جامعة دمشق، مع الأخذ بالحسبان أن كلية الاقتصاد أشبه بمشفى الاقتصاد، تقدم حلولاً وطروحات اقتصادية.
استفادة متبادلة
وبعد العتب، عاد عدي إلى صلب الموضوع واعتبر أن كل الحكومات المتعاقبة من عام 1949 إلى الآن لم تستطع تعديل النظام الضريبي المأخوذ من فرنسا، مشيراً إلى أنه تم التحدث عن المسؤولية الاجتماعية لأول مرة من خلال مرسوم صدر في العام الحالي 2023 حيث تم السماح للتجار والفعاليات الاقتصادية بأن تعد 4 بالمئة من أرباحهم نفقة مقبولة ضريبياً وتكون متعلقة بالمسؤولية الاجتماعية، طارحاً أمثلة على المسؤولية الاجتماعية كتقديم الرعاية المالية والعينية لطلاب المدارس والجامعات خلال فترة الدراسة، وتقديم الرعاية لجرحى الحرب وأسر الشهداء وتنفيذ وصيانة المنشآت العامة، ويستفيد القطاع الخاص من تقديم هذه المسؤولية بالإعفاء الضريبي.
واعتبر أن الموازنة المخصصة للمعونة الاجتماعية في عام 2024 التي تقدر بـ50 مليار ليرة من أصل 35500 مليار ليرة مخجلة.
التهرب الضريبي
وفي سياق متصل، بيّن الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور رسلان خضور في ورقة بحثية قدمها خلال الورشة، أنه يوجد توجهات وبرامج على المستوى العالمي والمحلي سواء كان أكاديمياً أم حكومياً ترى بأن مؤسسات الدولة الرسمية بحاجة إلى إعادة نظر، وتقر بعض التيارات بضرورة تخلي الدولة عن الكثير من مسؤولياتها الاجتماعية في مجال الصحة والتعليم والسكن وغير ذلك، نظراً لأن الدولة انسحبت بالأساس من النشاط الاقتصادي وليس لديها الموارد الكافية للقيام ببعض مسؤولياتها الاجتماعية، مشيراً إلى أنه قد يكون أحد أهم الأسباب لهذا الطرح هو العجز في الموازنة العامة للدولة، بحيث يتم تبرير العجز بأنه ناجم عن زيادة الإنفاق الاجتماعي، معتبراً أن هذا التبرير غير دقيق، فالمشكلة لا تتعلق بالنفقات أو زيادة الإنفاق الاجتماعي، وإنما تتعلق بجانب الإيرادات، فعلى مدى سنوات يتراجع الإنفاق الاجتماعي الذي لا تتجاوز نسبته من إجمالي الإنفاق العام بالموازنة 41 بالمئة عام 2022، وفي العام الحالي 30 بالمئة، أما في موازنة العام القادم فوصلت إلى 17 بالمئة فقط، مؤكداً أن الإيرادات العامة للدولة تراجعت بالفعل بسبب الحرب والحصار وفقدان الوصول إلى حقول النفط والغاز بسبب الاحتلال وتدمير المؤسسات الإنتاجية بالقطاعين العام والخاص، وهذا الأمر طبيعي، إلا أن تراجع الإيرادات بشكل أساسي وعجز الموازنة سببه التهرب الضريبي والتهريب الذي يعد شكلاً من أشكاله، إضافة إلى أشكال أخرى من الفساد والموارد المهدورة بأملاك الدولة وعقودها، إضافة إلى تراجع العبء الضريبي الذي يعد منخفضاً تاريخياً، حيث لم يتجاوز 15- 17 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي GDP، بينما وصل المتوسط العالمي إلى 28.2 بالمئة، ومتوسط الاتحاد الأوروبي 43 بالمئة، أما في الدول العربية التي تشبه اقتصاداتها الاقتصاد السوري فهو يقارب الـ25 بالمئة.
لا علاقة للنظام الاشتراكي
وفي السياق، أشار خضور إلى أن للدولة أياً كان شكلها ونظامها الاقتصادي مهام وواجبات اجتماعية، إلا أن الخلاف يتمحور حول حجم هذه الواجبات وكيفية وطريقة قيام الدولة بمهامها الاجتماعية، كما يعتقد البعض أن المسؤولية الاجتماعية لمؤسسات الدولة مرتبطة بالنظام الاشتراكي، وهذا الاعتقاد خاطئ، ولا يرتبط حتى بالرأسمالية، إلا أن الرأسماليين لا يتبنون المسؤولية الاجتماعية لدوافع أخلاقية وإنسانية وإنما حرصاً على سلامتهم وعلى الدولة الرأسمالية والمنظومة كلها، حيث يوجد قاعدة بالنسبة لهم تقول «إن مستقبل النظام الرأسمالي يتوقف على إدراك الجميع أن مبدأ المسؤولية الاجتماعية لا يقل أهمية عن مبدأ السوق الحر».
كما تم عرض بيانات توضح نسبة الإنفاق الاجتماعي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي للدولة، للدول الأربع ذاتها خلال الفترة الممتدة بين عامي 1980- 2022، فكانت النسب تتراوح بين 15 بالمئة و35 بالمئة، وقد كانت النسبة تتصاعد، أما في سورية فكانت النسبة تتراوح بين 16 بالمئة و20 بالمئة، على الرغم من أن الدول الرأسمالية تنصح الدول المشابهة لسورية عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتخفيض نسبة الإنفاق الاجتماعي.
التنمية الاجتماعية
وأشار خضور إلى أنه من أهم أسباب تزايد الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية على المستوى العالمي خلال السنوات الماضية، هو زيادة حدة التفاوت في توزيع الثروات والدخول، بدءاً من أواخر السبعينيات إلى اليوم، مؤكداً أن اختصار مفهوم المسؤولية الاجتماعية بما تقدمه الدولة بشكل مباشر من سلع وخدمات كدعم الخبز والسكر وغير ذلك، يعد أمراً خاطئاً لأن ذلك يعد أقل شكل من أشكال هذه المسؤولية أهمية، فجوهر ومركز ثقل المسؤولية الاجتماعية للدولة يكون في مكان آخر، حيث يتجسد في تحقيق التنمية المجتمعية التي تضمن حقوق الإنسان الأساسية، والتزام مؤسسات الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف في إتاحة الفرص لهم، وحماية المجتمع من الفقر وتبعات البطالة، وحماية الأفراد كمستهلكين، وضبط الالتزام بالمعايير الأخلاقية تجاه المجتمع في النشاط الاقتصادي.
وأضاف: إن المسؤولية الاجتماعية ليست أعمالاً خيرية أو مكرمات وعطاءات على الإطلاق، بل هي واجب ومهمة أساسية من مهام الدولة المعاصرة، وقيام الدولة بمهامها الاجتماعية يجب ألا يكون لأسباب إنسانية وأخلاقية فقط، ويجب عدم حصرها على فئات أو شرائح فقط، كما أن الهدف ليس حماية بعض الشرائح الضعيفة والهشة اقتصادياً، لأن الهدف الأساس هو الحفاظ على الدولة نفسها وحمايتها من الانهيار وتحصينها داخلياً، مشيراً إلى أنه يمكن لمؤسسات الدولة الرسمية وقطاع الأعمال العام ألا يقوم بإنتاج السلع والخدمات وتبادلها، وأن يحل محله قطاع الأعمال الخاص بإنتاج السلع السوقية وتبادلها، فهذا قد لا يؤثر في قوة الدولة وأمانها واستقرارها، ولكن لا يجوز على الإطلاق أن تتخلى الدولة عن مهامها الاجتماعية، فالدولة القوية ليست الدولة التي تملك وسائل إنتاج قوية وتنتج سلعاً وخدمات مختلفة من خلال قطاع الأعمال العام، بل هي الدولة التي تملك القدرة على الضبط والتحكم والتدخل بالمجريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
عدالة توزيع الثروة
وأشار خضور إلى أن أول مهمة من مهام المسؤولية الاجتماعية هو تحقيق العدالة والإنصاف في توزيع الثروات والدخول حيث يكسب الجميع من ثمار التنمية، وذلك من خلال سياسات التوزيع الأولي والثانوي، كي لا تضطر لاحقاً إلى اللجوء لتقديم الدعم المباشر لسلع وخدمات مختلفة إلا على نطاق ضيق ومحدود جداً، لأن هذا الشكل من الدعم يشوبه عمليات فساد كبيرة ويخلق سوقاً سوداء، وله آثار سلبية في المستوى الاقتصادي الكلي تفوق الآثار الإيجابية وهذا الأمر ملموس حالياً، ذاكراً بأن وسطي حصة الرواتب والأجور في الدول الرأسمالية يتراوح بين 36- 50 بالمئة على حين كانت في السبعينيات والثمانينيات تصل إلى 60 بالمئة في بعض الدول، أما بالنسبة لسورية فقد تراوح وسطي حصة الرواتب والأجور من الناتج الإجمالي المحلي قبل الحرب بين 25- 28 بالمئة، أما في فترة الحرب فأصبحت تقل عن 20 بالمئة، علماً أن 65 بالمئة من المواطنين يعملون بالأجر، و35 بالمئة يعملون لحسابهم الخاص، مشيراً إلى وجود تفاوت مرعب في توزيع الثروات والدخول في سورية وهذا يؤدي إلى عدم الاستقرار وفقدان السلم المجتمعي وإلى أزمات كبرى.
وتابع: «أما ثاني مهمة فتتمثل بمسؤولية الدولة بتوفير فرص التعليم لجميع مواطنيها لضمان تكافؤ الفرص وتمكين الجميع، وثالث مهمة تتعلق بتقديم الخدمات الصحية وإتاحتها عبر شبكات التأمين الصحي، وتنمية المجتمعات المحلية»، لافتاً إلى أن الدولة تقوم بذلك إما بشكل مباشر عندما تمتلك الفائض الاقتصادي فتتولى مهام التوزيع الأولي والثانوي وتقديم الخدمات الاجتماعية، أو بشكل غير مباشر عندما تملك جزئياً الفائض الاقتصادي فيكون دورها من خلال تحديد القواعد والقوانين ووضع التشريعات وإنشاء شبكات الأمن الاجتماعي لتقديم خدمات اجتماعية.
مسؤولية الجميع
وأكد أن الدولة ليست وحدها المسؤولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية، فهي مهمة جميع المؤسسات بما فيها قطاع الأعمال الخاص والنقابات والأحزاب والمؤسسات الوقفية، فخلال العقود الماضية بدأ قطاع الأعمال الخاص يحل بكثير من المجالات محل قطاع الأعمال العام، فمثلاً كانت حصته من الناتج الإجمالي 30 بالمئة في الثمانينيات، أما في عام 2011 فقد ساهم بحدود 65- 70 من الناتج المحلي الإجمالي، على حين كانت مساهمته في الضرائب 30 بالمئة، وكانت نسبة العاملين فيه تصل إلى 70 بالمئة من مجمل العاملين، على حين تتراوح نسبة المسجلين بالتأمينات الاجتماعية بين 30-50 بالمئة، ويتحمل العاملون معظم تكاليف التأمين الصحي، وقد صار الوضع خلال سنوات الحرب أسوأ وليس أفضل.
آلية الإدارة
من جانبه، أكد الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور أيمن ديوب خلال ورقة بحثية ثانية قدمها في الورشة، أن المشكلة تكمن في آلية إدارة المال العام، وليس في نقص الموارد، لافتاً إلى أن الدولة يجب أن يكون هدفها بالدرجة الأولى هو المواطن من خلال تقديم الخدمة العامة له والتي تتجسد في الدعم الكبير المقدم تحت ما يسمى المسؤولية الاجتماعية، والذي يجب أن يقدم بوساطة الحكومة عن طريق السياسات العامة والبنى المؤسساتية والخدمة المدنية، بهدف تحقيق رضا وانتماء وعدالة ومواطنة.
ورأى ديوب أنه يوجد سوء في تأدية الخدمة العامة، وهذا ما يمنع تحقيق العدالة والضمان الاجتماعي وغير ذلك، لافتاً إلى أن فلسفة النظام السياسي للدولة يحدد كيفية أو عدم توجهها نحو المسؤولية الاجتماعية بأبعادها الأربعة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والخيرية، متسائلاً عن وجود تشريعات صحيحة لتأدية هذه المهام وحملات توعية تتعلق بإيلاء اهتمام لهذا الجانب، وهل الدولة قادرة على مواجهة كل التيارات الثقافية والفكرية، وعلى القيام بتنمية مجتمعية، وهل يوجد شفافية مطلقة بالقرارات وعرض السياسات العامة؟ وهل يوجد عدالة اجتماعية أو تعميم للسياسات الاقتصادية التي تقلل من التبعية وتخفف المديونية العامة للدولة.
وأشار ديوب إلى أنه من خلال دراسة مجموعة من تجارب العديد من الدول النامية والمتقدمة والتي بلغ عددها 20 دولة، كان هناك نوعان من الدول، أولها اتبعت سياسات عامة ذات تدخلات ناعمة بسيطة غير مباشرة من خلال بناء وتأهيل الكوادر وتطوير الخبرات والاهتمام بقطاع الأعمال والمؤسسات الخيرية ولكنها لم تؤد إلى نتائج مهمة، وثانيها كانت تدخلاتها عامة ملزمة عبر سياسات وبرامج تصدرها الحكومات سواء من خلال إعفاءات ضريبية أم مكافآت أم قوانين وتشريعات، وهذا التدخل أدى إلى نتائج إيجابية على صعيد المسؤولية الاجتماعية.
أما في سورية، فتساءل ديوب عن البرامج التي تم تقديمها في هذا المجال، فقد صار هناك الكثير من الإجراءات وتم الانتقال من اقتصاد مركزي مخطط إلى اقتصاد السوق الاجتماعي وفق برنامج إصلاح اقتصادي طموح في الخطة الخمسية العاشرة، وهذا الأمر كان جيداً في جزء منه، ولكن المشكلة لم تكن في نوعية السياسات التي تم اتخاذها، وإنما تكمن في الرغبة وامتلاك المقدرة والكفاءة الحقيقية على تنفيذها، متابعاً: «مادامت الحكومة في هذه العقلية وهذا الفكر والتصرف فسنبقى بالوضع نفسه».
أين الرقم الإحصائي؟
ومن المداخلات ما أشار إليه عضو غرفة تجارة دمشق محمد الحلاق، أنه لولا تدخل رجال الأعمال وأصحاب الأموال لكان الوضع الاقتصادي انهار منذ السنة الثانية في الأزمة، فقد كان التدخل الإيجابي من خلال المعونات وسواها من الصدقات والزكاة وغير ذلك له أثر كبير في وقوف الحكومة لغاية الآن، معتبراً أن العمل الخيري هو جزء من المسؤولية الاجتماعية، وقد كان هناك أعمال خيرية مستدامة قام بها بعض رجال الأعمال السابقين كجر مياه عين الفيجة إلى دمشق، وبناء مشفى المجتهد وغير ذلك، لذا من الممكن لرجال الأعمال الحاليين القيام بالكثير من الأمور الإيجابية، لكن تكمن المشكلة الحقيقية في الوضع الحالي أن أغلب المبادرات إسعافية، فمثلاً تدخل رجال الأعمال بعد وقوع الزلزال في شهر شباط من العام الحالي، تم تقديم الكثير من الإعانات، لذا يجب عدم تجاهل دور رجال الأعمال والمدفوعات التي قدمت.
وفيما يخص الإحصائيات حول التهرب الضريبي، أشار إلى وجود مشكلة في الرقم الإحصائي، وهناك شكوك بصحة نسب العبء الضريبي، كما يوجد مشكلة في تناغم وتناسق التشريعات التي تجعل قطاع الأعمال متهرباً بشكل دائم أمام تسجيل عماله بالتأمينات الاجتماعية بسبب الأعباء وضرائب الرواتب والأجور التي تؤثر على رجل الأعمال.. وفي سياق متصل، أشار الحلاق إلى تقدم غرفة التجارة لاستثمار مستوصف طبي لمؤسسة السورية للتجارة، ولكن بعد أن تم الاتفاق معهم ومعاينة المكان، وضعت المؤسسة مبلغاً خيالياً للاستثمار، لذا المعوق بالنسبة لقطاع الأعمال لممارسة دوره بالمسؤولية الاجتماعية يكون في بعض الأحيان من قبل الحكومة التي تنظر للموضوع على أنه استثمار مادي.
سيرياهوم نيوز1-الوطن